ناجح المعموري
سردية تتجاور مع الطير الأسود الصغير بشعريتها الناضحة عن تنوعات الرمز . وتعدد الامكنة وسط فضاء واضح .
لكن ذلك يفضي نحو اشكالية الهوية ، بين الشاب العراقي والفتاة والكاتبة من تشيلي . الاختلاف قائم وبين ، لكن عمق الإحساس بالغربة وقسوة الابتعاد عن المكان الرحمي ، جعلهما يشعران بشيء من دنو غروب الأحلام ، لذا اختار الالتفاف حول الكنيسة استجاب لطلبها ، بعد أن التقط النوافذ المضيئة في مدينة موسكو ، لأنها أرادت أن تصعد التل في طريقهما للكنيسة ، حتى يرى موسكو ومن الأعلى . قالت له :
ــ اكتشفت مقبرة . انظر
تطلع الى الكنيسة ، فرأى قبرين أبيضين ، يطلان من بين الأحراش القصيرة وأضافت هي هامسة .
ــ لم انتبه إليهما في الصباح .
سألها : هل كنت صباح اليوم هنا .
قالت : اسمع ... اسمع . قرب أذنه من سياح الكنيسة الحديدي البارد فسمع وشوشة ماء . كان الماء يهمس بصوت ضعيف لا يكاد يسمع وأمالت هي رأسها نحو السياج رافعة حاجبيها القصيرين الى الاعلى ، تتصنت وتبتسم سألها مرة اخرى :
ــ هل كنت صباح اليوم هنا ؟
هل التي طلبت الذهاب الى الكنيسة ، بمعنى كررت زيارتها وهو أمر مستغرب ، هل حتى تكرر رؤية القبرين الأبيضين؟ . هما اثنان ، وغريبان ، مختلفان وهذا أمر مثير وحتمي . وربما كانت زيارتها الأولى طقسية ورجائية ، أن يمنحها الرب آمناً ــ ودوام عشق للقادم من بغداد ، والذي اكتشف تكرر زيارتها على حلم ديني وطقسي . روحي له وظائف عديدة ، لكن الأهم هو الحب واستمرار العلاقة ، حتى لا يشعرا بأنهما أكثر إحساساً بالغربة والابتعاد عن العراق وتشيلي.
اتضحت مهارة القاص محمد كامل عارف أكثر براعة في هذه القصة . ليس من خلال تنوعات الرموز وتعدد الدلالات ، بل بالوظيفة الشعرية للوصف والدقة في رصد مكان محدود المساحة ، كما أنه قدم لنا مشاهد صورية ، صاغت السرد لحظة وجودهما عند سياج الكنيسة ، لكن ما رسمته سرديته عن الفتاة وهي تضيء شمعتين ودوران العجائز داخل الكنيسة بالشمعتين اللتين ظلتا مشتعلتين ، إنه مشهد سينمائي دخل مركبا في البناء السردي كما ان الاشتعال تعبير رمزي عما سيتحقق من اتصال بينهما والمثير في هذه القصة التكرر الذي اعتدنا عليه في قصص جيرورد شتاين ، واعتقد بأن تكرر مفردات محدودة تمثيل لما هو في الكتابة الشعرية مضافاً لذلك فإن مفردة الضحك تعبير عن المسرّة في اللحظة الطقسية المسيحية .
الحضور الروحي للكنيسة فوق التل توظيفاً للأماكن المرتفعة في الديانات البدئية ، تجاور منح القبرين رمزية لها حلم الغفران . مثلما انهما يومئان لمخاوف الشاب والفتاة ان يكونا معاً متجاورين وسط مساحة عشبية صوت سقوط ماء هادئ جداً . التقطته ، وطلبت منه الانتباه لذلك ، تمثيل سردي لما يفيض به الجسد المتوتر . هكذا هي الأنثى في قصتي محمد كامل عارف تباعد في " الطير الأسود الصغير " ودنو ومحبة في الغريبان والثانية كاشفة عن حضور التباين ، انتماء ولا منتمى هنا تتضح الاختلافات التي أشار فوكو مؤكداً عليها ، عندما قال " نحن اختلافات " لكن هذا منح السرد نمواً هادئاً ومتوتراً بالمعنى الشعري مع تلاوين تكرر ملفوظات محددة تكشف عن مغايرة بين الاثنين ، لكنها ــ المغايرة ــ أم تعطل العلاقة الثنائية بينهما ، وهذه ظاهرة ثقافية توافقا عليها ، على الرغم من انتماء الفتاة . ومثلما ذكرت قبلاً مقولة فوكو عقلنا اختلافات ، الخطابات والتواريخ اختلاف ، أزمنة ذواتنا هي اختلافات أقنعة أن الاختلاف هو التشتت الذي نحن فيه وعليه والذي نمارسه .
اللقطات السردية التي صاغت هذه القصة الشفافة هي مشاهد الحضور الديني وما يفيض عنه من مشاعر الحزن والأخرى رموز ذات معنى جاذب بطاقة محفزة لهما معاً " بدا وجهها شاحباً ، بنفسجياً تحت ضوء المصابيح الليلية ، وشفتاها حلبيتين ومفعمتين بالبنفسج ، بقيت تتطلع فيه والريح تلف أطراف شعرها حول عنقها ، وتبعثرها فوق ذقنها وشفتيها ، أزاحت شعرها ، ممسكة به وراء عنقها ، وسألته :
لماذا تضحك ؟
قال : أنا لا أضحك ؟
ــ ولكنك كنت تضحك ، كنت تنظر فيّ وتضحك
قال : لم أكن اضحك . كنت انظر نحوك هكذا وافكر بالعجوز التي تشبه العنز الأبيض .
ــ قالت : أوه إنك أحمق .
وضحكت :
ــ إن الفتاة المهذبة لا تقول لعمها أنت أحمق .
ــ أوه ، أنت أحمق أيضاً .
ــ أنا أكبرك بخمسة أعوام ،
ــ يعني أنكَ لا تستطيع أن تكون عمي .
ــ حسنا أنا أخوك الأكبر .
ــ ما الذي تريد مني أن أكون إذن ؟
الهدوء قاد الحوار والتباين والتركيز على جمالية التكرر حتى وقفت الثنائية بينهما للسؤال الجوهري الذي تحلم بجوابه وكان خاتمة الحوار بين الاثنين عشيق لها . هذا ما تكشفت عنه اللقطات السينمائية والحوارات الهادئة الفياضة بالمعنى الشعري .
الحقائق الدالة على عمق الثنائية بين الغريبين كامنة في أعماق الخطاب . وليس في الخارج ، المكان على الرغم من أنه استوعب الرحلة القصيرة والتي عاشتها الفتاة مرتين واعتقد بأن مقترحها للصعود نحو التلة ورؤية الكنيسة ذات تلميح لصعود الجسد واعتلاء التلة الأنثوية .
الاندثار والانبعاث ، الموت والخصب والتجدّد هما ثنائية ثقافية ذات حضور مهيمن في قصتي محمد كامل عارف . لكن الطاقة والحيوية أكثر تمظهراً في قصة " الغريبان " اللذان قاوما المشهد الديني والموت وذهبا بحماس لبعضهما .
" اقترب منهما ، ولف ذراعيه حولها ، فاتكأت برأسها على صدره وأخذا يهتزان فوق حافة التلال ، والريح لا تفتأ تدوي من الخلف وتحت أقدامهما تنحدر التلال بأشجارها المضيئة من الأسفل وقناة موسكو تتلألأ عند المنعطفات فيما وراء الأشجار .
في هذا المقطع السردي تنوعات رمزية ، تعني في الآن ذاته ، حقائق ما ستكون عليه العلاقة الثنائية بين العشيقين لأن الخطاب دال على ذلك .
قالت : لنختبئ بين الأحراش هناك .
وتقدمته نحو حافة التلال ، انحدرت الى الأسفل ، مخترقة طريقاً ضيقة متعرجة بين الأحراش ، وانفتحت أمامها فجوة ترابية مضيئة هبطت نحو الأرض ، فارتمى بجانبها واختفت موسكو وراء الأشجار //
لف ذراعيه حولها / أراحت رأسها على صدره / اهتزّا تمثيلاً رمزياً وليس اتصالاً إدخالياً ، الرغبة متوترة مرموزاً لها بالريح / تضاءل الإحساس بالاختلاف بينهما وهو واسع وعميق ، لكن الوحدة بين الجسدين ألغت كل ما كان ضاغطاً عليهما ومعطلاً الحوار التبادلي .
وبعد الاتصال الجسدي ، تطلع العراقي الى السماء البيضاء فوقه . لم تعد الريح تدفعهما من الخلف ، إلا أنها كانت ما تزال تدوي في الأعالي . استند على مرفقيه ، وأخذ يعبث بالتراب ، وينصت لصوت الريح : قالت :
ــإنك تضحك أيضاً ؟
أجابها : أجل
ــ ما الذي يُضحك هكذا
ــ كيف تضحك هكذا ؟ إنك تحفر الأرض بأصابعك وتضحك !
ها ..... ها! أنت لا تزال
قال : لكني لا أعرف لماذا أضحك .
ــ لست أدري .... إنني افكر هكذا ... أنتِ من سنتاغيو ... من التشيلي ... هناك في أقصى اميركا الجنوبية ، وأنا من بغداد ، ها العراق ، وكلانا يعيش في بلد غريب عنا . ها ؟
مهارة السرد المميزة لقدرات محمد كامل عارف ، أضاءت لها بأن اللغة مضيئة لمتاهة الدرب ، مثلما كشفت لنا كما قال سوسير " اللغة هي ما يكون وحدة الاستخدام اللغوي " لكن لا بأس أن تؤشر لمقولة " هايدجر " الشهيرة . اللغة بيت الكينونة . وهذا النجاح في تحقيق التوازن ومسك الدلالات هو الذي ميزّ الحضور الشعري في السرد وهذا أحد ملامح السرد في التجربة النادرة للقاص محمد كامل عارف .
تعرفت الشابة على السبب الذي جعله يحفر الأرض وينثر التراب بعدما التقيا وتبادلا حواراً بطيئاً ، لأنه ــ العراقي ــ لا يود الانتهاء منه ، فالحوار لم يكن صوتاً ، انما هو ادخالاً استحضر ذاكرة الصحراء التي جمعت شمخت / كاهنة الرغبات وأنكيدو . سعى القاص من أجل الشعر لأنه بيت الوجود ونجح بالتمثيل بين الأرض وتفاصيلها ، وبين الفتاة التشلية ومناطق جسدها كله " ألقاها على الأرض " وانكفأ فوقها ، وقبلها في عينيها ، قبلها في جبينها ، ثم في عينيها المغمضتين ، وتحت شفتيها ، في أسفل ذقنها.
ــ لا تفعل ، لا تفعل .
واحتضنها بجسده كله ، وغطّس شفتيه في شفتيها المرتعشتين المبللتين بالدموع .
هي اللحظة الأخيرة التي تخلّصت الفتاة من شكوكها بالشاب العراقي والتقطت منه توقيعات شفتيه وانفتحت له عن لذائذ عرف كيف يصطادها حتى تدفق الدمع بعد ان امتلأت العين .
ويعني بها العين العميقة والسرية للأنثى.