لطفية الدليمي
لطالما لازمني الشعور بالأسى والفجيعة كلّما تناهى إليّ خبر رحيل أحد العلماء أو الفلاسفة أو الروائيين أو المفكّرين المميزين .
أظلّ حينها أسائل نفسي: هاهي خبرة تحصّلها مبدعٌ عبر عقود طويلة تذهب إلى مطاوي النسيان ، ثم أتطلع لأمنية قد تتحقق في سنوات قادمات يكون فيها بوسع البشر الحفاظ على الخبرات الثمينة من الضياع .
ليس الأمر محض حسرات نزفرها على تبدد خبرات ثمينة لأناسٍ مميزين ؛ بل ينطوي أيضاً على نمط من رؤية نيتشوية ممكنة التحقق قادرة على إعادة تشكيل الوضع البشري . نعرفُ أنّ القدرات الجسدية تكون في أعظم مناسيبها خلال عمر الشباب، ثمّ تتضاءل مع تقدّم العمر مقابل ارتقاء مناسيب الخبرات التي يدعوها الناس ( الحكمة )
يرى البعض في هذا الترتيب نوعاً من حكمة كونية ؛ لكن كثرةً من البحّاثة الطلائعيين لايقبلون هذا الترتيب ويتطلعون لمرحلة نستطيع معها تعظيم القدرات الجسدية والخبرات الفردية منذ سنوات الحياة الأولى لتستمر طوال الحياة ، ولنا حينها أن نتصوّر الآثار التي ستترتّبُ على هذا الإنجاز والتي ستعيد رسم الخارطة البشرية ومكانة الإنسان في الكون .
كان من ضمن اهتماماتي الترجمية في السنوات القليلة الماضية موضوعان حيويان هما : الأنسنة الانتقالية Trans-humanism ومابعد الإنسانية Post-humanism ، وقد كتبتُ العديد من المقالات المنشورة بشأن هذين الموضوعين فضلاً عن أنني ترجمتُ كتيباً صغيراً كتبه الفيلسوف البريطاني – السويدي نِك بوستروم Nick Bostrom ( المتخصّص بأخلاقيات الذكاء الإصطناعي ، والكوارث المهدّدة للوجود البشري ، وعصر مابعد الإنسانية ) وصدر عن دار المدى ، تناول فيه مختصر تأريخ الفكر العابر للإنسانية ، ثم لازمني تطلّع شغوف يمكن اختصاره في التساؤل التالي الذي قد يراه البعض أقرب إلى فنتازيات روايات الخيال العلمي : هل يمكن تخليق حاسوب عملاق ( سوبر حاسوب ) بوسعه نقل الخبرات البشرية المخزّنة في عقل ( أو ذاكرة ، لافرق ! ) كل شخص على الأرض ، ومن ثمّ معالجة هذه الذاكرات الضخمة لتحويلها إلى خبرات خوارزمية مفيدة لكلّ البشر ؟
لابد أول الأمر من إيضاح محدد لمفهوم ( الخوارزميات ) التي أقصدها في سياق رؤيتي هذه . الخوارزميات المقصودة هي نمطٌ من خبرة بشرية مكثفة لها سمة عالمية تتجاوز المحدوديات المحلية والعنصرية والجغرافية ويمكن توظيفها والاستفادة منها في جميع المجتمعات المعروفة فقد تجاوزت فائدتها المؤكدة طور التدقيق والاختبار وصارت متاحة لكلّ متطلّع إلى خبرة منتجة جاهزة .
ربما يكون الجانب التقني هو الحلقة الأيسر في الموضوعة بكاملها ؛ إذ ثمة تعقيدات لوجستية ومفاهيمية في هذا المسعى تتمثل في المرجعية التي على أساسها يمكن إعلاء شأن خبرة بشرية محدّدة واعتبارها ذات أهمية خوارزمية مؤثرة - بالمقارنة مع سواها - تستوجب تمريرها إلى الجميع منذ بواكير حيواتهم مثلما نفعل - على سبيل المثال - مع اللقاحات المنجية من الأمراض المهلكة . وهنا قد تواجهنا حقيقة صادمة : إنّ مايراه الفرد خبرة عظيمة الأهمية بعد أن عاش ستة أو سبعة أو ثمانية عقود أو أكثر من حياته يتقاطع تماماً مع مايراه شاب في مطلع حياته لأسباب كثيرة تتعلق بالتشكلات العقلية والنفسية وطبيعة التطلعات المنتظرة في الحياة المقبلة لكل منهما ، وهذه كلها أمور مشتبكة تتداخل مع النواقل العصبية والبيولوجيا الوظيفية للدماغ والجهاز العصبي فضلاً عن مؤثرات بيئية ومجتمعية كثيرة في تشكيلها ؛ فكيف السبيل للتعامل مع هذه المعضلة ؟
تبقى السنوات التي يعيشها المرء – مهما طالت – قصيرة وغير قادرة على تمثّل كافة أنواع التجارب التي يمكن أن يتفاعل معها العقل البشري ويحولها لخبرات منتجة . ليس الأمر مرهوناً بقصر سنوات أعمارنا فحسب بل بمحدودية الفضاءات الحقيقية ( بمعنى المختبرة في العالم المادي المحسوس بحواسنا البشرية ) التي تعد ميادين حقيقية لاكتساب خبراتنا . هنا نواجه المفارقة القاسية : كيف السبيل إلى تمثّل تجارب الآخرين – بكل غناها وثرائها – ونحن نعيش تحت ضغط هذه المحدوديات التي أصبحت واقع حال معلناً ؟ . يبدو لي أن الجواب يتجه ليكون استكشافاً متواصلاً في فضاءين مشتبكين يمثلان المنبع الأزلي والدائم للخبرات البشرية :-
الفضاء الأول : هو الفضاء الجوّاني ( الداخلي ) ؛ إذ هناك دوماً دافع نبيل وراء سعي المرء الدائب إلى التماهي مع الكون ، ومحاولة الانغمار الكامل فيه عبر روابط يصعب تشخيصها ، وهي روابط تتجاوز عتبة معرفتنا الحسية المباشرة الى فضاء ميتافيزيقي بعد اختبار كشوفات ثرية توصف بالاستنارة الداخلية والكشف الذاتي المدهش . إن واحداً من أهمّ ما يسِمُ هذه المعرفة أنها عصية على التنميط والضغط في خوارزميات جاهزة بسبب من غرائبيتها واختلاف الدافع للانخراط فيها وتلوّنها بلون التجربة الفردية المعززة بنكهة شخصية يتعذر تمريرها للآخرين.
الفضاء الثاني : هو الفضاء الطبيعي المحدود الذي يحيا فيه الإنسان ؛ لكن مع السعي إلى محاولة توسيع آفاقه وحدوده عبر تمثل خبرات أخرى تتجاوز الحدود الطبيعية لحياته ، أي بلغة أكثر دقة ومهنية : أن نحصل على الخبرة جاهزةً بدون أن نكون طرفاً في صناعتها أو تخليقها ، وهذا ما يحيل إلى خبرات من نوع خوارزمي محدد . هناك من سينتقد وبلغة درامية : إن هذا النوع من الخبرات تعوزه سخونة التجربة المباشرة وحميمية اللحظة الكاشفة . ويمكننا الرد على هذه النقودات بطريقة علمية مختبرة : ليس بإمكان جهازنا العصبي وطاقتنا الإدراكية – مهما علت وتسامت – القدرة على تمثّل كل التجارب بسبب من المحدوديات الطبيعية الذاتية التي ينقاد لها كل كائن حي . هنا نكون أمام خيار صعب : إما أن نقنع ببضع تجارب نعيشها عن قرب و بحسية مباشرة مع القبول بفقر مزمن في عدتنا المفاهيمية ، أو أن نقبل بخبرات جاهزة في صيغة حزمة خوارزميات هي نتاج تجربة آخرين ممّن نثق بهم وهم أنفسهم دفعوا أثماناً لتجاربهم تلك ، فلماذا نعيد دفع ثمن خبرةٍ مدفوعة الثمن أصلاً ؟
سيكون من الطبيعي والمناسب تماماً الإشارة إلى التعليم باعتباره الخزان الجاهز الذي يمكنه تمرير خوارزميات الحياة الطيبة إلى الأطفال منذ سنواتهم الاولى في الحياة ، ويمكن معاينة حالة عيانية حاصلة في المجتمعات الإسكندنافية التي تحقق أعلى مناسيب الحياة الطيبة طبقاً للمقاييس العالمية المعتمدة ؛ فثمة تركيز على الموسيقى والرياضة وتعلم اللغات و السفر والاطلاع المباشر على حقائق الطبيعة .
من المهم أن أشير هنا إلى ذلك النبع الخصب من أدب السيرة الذاتية - تلك الذخيرة الرائعة من الخوارزميات الثمينة ، ولطالما قرأت في سِيَر علماء وكتّاب ومفكرين ومبدعين أنهم أودعوا سيرهم خلاصة خبراتهم التي قلما تناولوها في أماكن أخرى وبخاصة أن هذه السير عادةَ ما تكتَبُ بعد أن تكون الخبرات قد تعتّقت وصارت قابلة للضغط في صيغة خوارزميات مكثفة ، و ربما كان هذا هو السرّ وراء الاهتمام الهائل في العالم الغربي بهذا النمط من الأدب الحيوي الذي يكشف أدق تفاصيل خبرات الشخص الذي نقرأ سيرته الذاتية .
ثمة ملاحظة مهمة هنا : تبدو بعض الخبرات البشرية قابلة للتنميط والضغط في خوارزميات محددة ، و مثال ذلك : الاهتمام بالرياضة والمشي لمسافات طويلة ، تعلم كثرةٍ من اللغات ، التسامح وإتقان فن العيش مع المختلف ، التعددية الثقافية والحضارية ، عدم التشبث بمرجعيات من أي صنف ولون ، مجاوزة المحلي باتجاه الكوني ، الحس الإنساني المشترك ، الاهتمام البيئي في شتى تفاصيله الكثيرة ؛ لكن هناك خبرات يبدو أمرها غير واضح تماماً : هل هي قابلة للتشكل في خوارزميات أم لا وذاك أمر يتعلق بطبيعتها واختلاف آلية تأثيرها في الفرد ، ويلعب المزاج الشخصي دوراً حاسماً في كيفية تطويعها إلى ما يليق بخبرة منتجة ، وليس من بأسٍ في بقاء بعض الموضوعات عصية على الضغط في أيّة مقايسات خوارزمية متاحة للخبرة العامة طالما كان هذا الأمر دافعاً لتحريك المخيال الفردي ولا يؤدي إلى عواقب مؤلمة لاحقاً .
يمكن القول في عبارة تلخيصية موجزة : الخبرات الخوارزمية الأكثر سهولة من سواها هي تلك التي تعظّمُ قدرات الفرد الجسدية وتحفظ لياقته البدنية باعتبارها استثماراً مؤكداً لمستقبل صحي أفضل يخلو - قدر الممكن - من المعيقات الجسدية التي تنعكس على قدرات الفرد العقلية وطيب عيشه ؛ أما الخبرات الأكثر مشقة على التمثل الفردي فهي تلك التي تلامس خواصه العقلية والنفسية وتحاول الفعل فيها لإعادة تشكيلها .
لو نجح البشر في تخليق مثل هذا الحاسوب العملاق الذي سيعيدُ تدوير الخبرات البشرية وتعزيزها لتحويلها إلى خبرات خوارزمية فاعلة ، فأظنّنا حينها سنبدأ خطواتنا الأولى نحو الخلود الرقمي Digital Immortality الذي تبشرُنا به أدبيات الفكر العابر للإنسانية البيولوجية التي نعرف ، وربما سيكون هذا الخلود الرقمي مكافئاً مناسباً لضياع حلم الكائن الحي ( منذ كلكامش وحتى يومنا هذا ) في بلوغ مرتبة خلود الجسد البشري أو مداعبة حلم ( الإنسان الخارق ) الذي سكن أحلام نيتشه طوال حياته .