حيدر المحسن
تعود أهمية قصة "الأفول" إلى أنها أول قصة قصيرة جداً يكتبها فرج ياسين, وكان هذا عام 1979, زمن مبكّر جداً بالنسبة إلى نوع القصّ الذي سوف يخصّه الكاتب في 2016 بمجموعته القصصية الأهمّ "قصص الخميس".
ظلّت "الأفول" راسخةً ما يقارب الأربعة عقود في ذهن الكاتب ليشرع بعدها في إطلاق مشروعه الأخير. أربعون عاماً من أجل تشذيب وتنقية وصقل اللغة كي تغدو القصة تشبه الحكاية لولا أن كلّ رمز صغير فيها يبدو مثقلاً بمعنى منفصل, تتحّد الرموز وتكوّن ما يشبه الأسطورة الصغيرة تُقرأ في صفحة واحدة على الأغلب, أو في صفحتين.
كتب فرج ياسين في مقدمة الكتاب أنه مجموعة "أخبار وحكايات وصور ومواقف لا تعوّل على الإبهار البياني والتزويق والشعرنة حكايتها كما لو أنني في مجلس متنقل على الأرصفة, أروي للناس العابرين ما يعرفونه, ولكنهم يعجزون عن التقاط جمرته, متماهياً مع كلمة لجلال الدين الرومي يقول فيها: لعلّ الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً ولكن ليست كل عين ترى". القصص مروية بطريقة مباشرة وفيها حسّ كبير بالحزن. قد تكون مآسياً, لكن القارئ لا يعرف أنها مأساة لأنها مروية بطريقة تذهب بها إلى أعمق من الحكاية نفسها. هنالك قصة تختفي وراء كلّ حكاية, وقصة أخرى تظهر.
تحكي قصة "الأفول" عن عجوزين جارتين تجلسان عند عتبة البيت، تغزلان. حلّ الليل في ذلك اليوم، ولم تعد إحداهما ترى الأخرى. ثمة شيء أسودُ قريبٌ لكن العجوز ليست واثقة من أن هذا الضّباب المعتم هو جارتها. رغم تقدّم الليل لم تكُفَّ العجوزان عن الغزل، وظلّتا تنظران إلى خيطيْ الصوف وكأنهما ترقبان شيئاً ما. يتكرّر ظهور المرأتين كلّ يوم إلى أن ينساهما جميع من في الحيّ, وتنتهي القصة بهذه العبارة الملغزة: "لقد كانتا متشابهتين، وكانتا فوق ذلك، تغزلان. تصنعان -بشبه اتفاق- شيئاً واحداً".
لا ينتمي النصّ الأدبي ّإلى أحد، ولا حتى إلى مؤلفه، بل ينتمي إلى اللغة والتراث اللّذين يبتدعهما الكاتب. سُئلَ هيمنغواي عن الرمزية في أعماله، أجاب: أفترض أن هناك رموزاً طالما أن النقاد ما زالوا يكتشفونها. القصة العظيمة لغز لا توجد طريقة واحدة لحلّه، كما أن التأويل في الفن يؤدي أحياناً إلى إمالة المعنى، يقدمه النقد إمكانًا مؤاتيًا بين احتمالات شتى كلّ منها حدس نقديّ مشروع طالما وقفت وراءه قراءة حقيقية للنصّ. العجوزان في "الأفول" يمكن أن يكونا الليل والنهار، والحبّ وضدّ الحبّ، والحياة والموت... إلى آخر ما يغزله الكون لنا من مقدّرات. كان فلوبير يقول إننا نستطيع تخيّل الصحراء، الأهرامات، أبي الهول، قبل رؤيتها، لكن ما يستحيل تخيّله هو هيئة رأس فلاح تركيّ جالس أمام بيته، لأنه لا أحد يستطيع فهم ما يدور داخل ذلك الرأس. كيف يمكننا تخيّل ما يدور في ذهن العجوزين وهما في جلستهما العتيدة عند عتبة البيت، تغزلان، تصنعان شيئاً واحداً؟
لا تخبرنا القصة عن موت العجوزين لأنها لا تهتمّ بهذا الأمر، وراحت جهود الكاتب تصبّ في نقش الأثر الذي تتركه المرأتان في الحيّ. آلاف من الخطوط التي يشكّلها الغزل تنحني وتتقاطع، وترتفع وتنخفض، وتعود تتقاطع، كأنّ العجوزين تنقشان ما يحدث في المدينة، وترسمان مسبقاً ما سوف يحلّ فيها. كلما تقدّم المساء اشتدّ غليان الأفكار لدى الغزّالتين، وتزاحمت الأشياء العجائبية التي تخرج من بين أيديهما. يمثل فرج ياسين نموذجاً للمؤلف غير المتصالح مع واقعه والرافض لعصره الذي يُسحق الإنسان فيه بأدوات العسف والقهر والاستلاب. وإذا علمنا أن القصة كُتبت عامَ 1979 أدركنا المغزى السّاخر الذي أراد القاصّ تمريره بعيداً عن أعين الرّقيب. كان الوطن في ذلك العام يسير على ظهر مركب غير آمن يعبر بحراً عميقاً. الغزْل القديم انتهى، وها هو عصر جديد يبدأ، وسوف يعيش العراقيّون فيه في جحيم من حبر صينيّ. المثير في الأمر أن أهل الحيّ ينسون أمر الغزّالتين، كأنهما صارتا من موجودات المدينة الثابتة مثل نصب يتوسّط السّاحة ويمتلك قدرة خارقة على قراءة كفّ المدينة, والبلاد, والعالم. وعنوان القصّة يستدلّ به القارئ على أفول الحياة التي كانت عليها المدينة بأيدي الغزّالتين الميّتتين/الحيّتين. لكلّ بداية نهاية، وكلّ نهاية هي بداية لشيء جديد، كما يقول أفلاطون. البداية الجديدة في تاريخ العراق - ما بعد الحديث - هو زمن كتابة القصة، 1979.
جميع التعليقات 1
محمود سعيد
لآنهما عجوزان فأفولهما يعني ولادة جديدة