طالب عبد العزيز
استرح منه يا أخي، الوطن المرعب الذي ابتليت بحبه، اتركه بجراحه وبجراحنا كلها، لن تندم على شيء، ستظل فاغرة الى الأبد الجراح تلك، هناك من سيكمل احتضان الدم الذي لم تحتويه يداك.
اترك لنا ساحة فارغة جديدة، تتناثر أجسادنا على إسفلتها، لا تحتكر الساحات كلها يا أخي، اترك لنا ما تبقى من الضوء في أحزمة التفجير، نريد أن ننعم النظر بأجسادنا جيداً، قبل تناثرها في سوق البالات وقرب باعة الشاي، في ساحة الطيران أو في غيرها، هذه بلاد لا تحفل بمباهجنا طويلاً، لذا لن نفتح المذياع على أغنية، ما لنا والأغاني، وقد رفع اشقاؤنا في الغربة والمرض يافطات سود كتبوا عليها نعينا الأبدي.
وإذا شاقك أن ترانا من منفاك بالغري، نقول لك بأن مفخخنا لم يأت بعد، ها نحن ننتظره، هو ما زال يبحث عنا، في إحدى ساحات مدننا الكثيرة، عن ساحة لم يدونها دم عراقي على الخريطة، أو عن تقاطع طرق لا تمر به مركبات الساسة المصفحة والسوداء، لكنه سيجدنا بكل تأكيد، لذا، أرجوك استرح من العذاب هذا، الذي ينغصّ عليك فستحك الضيقة تلك.
نحن لا نتحدث عن سخاء دمك ولحمك، ولا عن وقوفك الطويل، صباح كل يوم، وقد أثقلت يدَك خِرقُ الثياب المستعملة، وأنت تتصفح وجوه المارة، بحثاً عن مشترٍ ضائع مثلك، كل الذين مروا بك هم نحنُ، وأنت تتذكرنا واحداً واحداً، كلنا تطلعنا في وجهك وسألناك سعراً مناسباً، يؤسفنا أن نقول لك بأن ما كان في جيوبنا من نقود لا يكفي ثمناً لوقوفك ذاك، ولا يساوي جرحاً صغيراً في إصبعك، كان يمكننا الوقوف أكثر، واستمالتك بسعر آخر، لكنّ صاحب الحزام الناسف اكتفى ببعضنا قربك فأرجأنا لحزام آخر.
وكان بودنا أن نعلمك باختلاف الأحزمة الناسفة من حولنا، ونقول لك: هناك من يتوعدنا في مدن عراقية أخر، ففي البصرة والناصرية وكربلاء وغيرها يبتكر الناسفون، ومنذ سنتين أحزمة جديدة لنا، أحزمة تمشي، وأخرى تركب دراجات نارية، تتعقبنا في الشوارع الخلفية للساحات، وقد تحاصرنا قرب بيوتنا، وأثناء مرورنا قرب الأسواق، لكنها لا تنفجر علينا مدويةً، هي تنفجر بنا صامتةً، فلا يتطاير منها لحم ودم كثير، ولا يسمع بها أحد.
في الختام يا أخي، أما زلت تبحث عن وطن؟ وتصيح بأعلى صوتك إريد وطناً !! أرجوك كفّْ عن ذلك، إكتف باليافطة السوداء التي على حائط المسجد بقعة لخلودك بيننا، وانتظر الشهر والسنة وربما الأسبوع الواحد لا غير، ستمحو الريح والشمس أحرف اسمك، وينسى أهلك وجيرانك وأصدقاؤك ونحن أيضاً كل ما حدث لك، ذلك لأننا، سنلحق بك لا محالة، فالوطن الترابي الصغير الذي دخلته ليلاً قادرٌ على ضمنا جميعاً. هناك، سيتاح لنا ما نريد وسنرفع أصواتنا عاليةً، ونصيح نريد وطناً، نريد وطناً، وكما يحلو لنا، حيث لا أحد يسمع، ولا أحد يفجر نفسه قربنا، ولا أحد يشهر مسدساً كاتماً بوجهنا، هناك، سنتقاسم معاً حفنة الرمل تلك، فهي بقولهم حقنا الوحيد في الحياة.