حيدر المحسن
ما هو الأهمّ في مسألة الفنّ؟ وهل يمكننا الفصل بين العمل الفني وأثره؟ النقش على الحجر لا يشبه الكتابة على طين مائع. ما لا يجدي يذهب مع الرياح، وليس كذلك التأسيس الشعريّ الذي أتانا من بين يدي حسين عبد اللطيف، الشاعر وصاحب الأثر الذي لا يمّحي في الشّعر العراقي الحديث.
"السّهام/ بلا طوابع بريد/ و.. / تصل".
التقيت الشّاعر أوّلَ مرّة في حديقة اتّحاد الأدباء في بغداد. كأنّ السّماء فوقنا غيّرت من خرائطها فجأة وصارت بساطاً ملوّناً. هل كانت تحيّي الشّاعر القادم من مدينة البصرة؟ قرأت له قصيدة "الهدهد"، ودار الحديث بيننا، ثم سألته عن الشّبه الكبير بين قصيدته التي تنتمي إلى شعر التفعيلة وبين قصيدة النثر. قال: "أنا لا أميل إلى المنبرية في الشعر، بل إنني أكرهها، أكرهها" وعلا صوته، وكان يؤشّر بيديه، كأنه يؤكد ما يقوله بالفعل بالإضافة إلى القول. الملاحظ أن الشاعر قدّم لنا رغم نفوره من الصوت عالي النبرة غنائيّة فريدة استطاع أن يضع عليها اسمه الذي لم يرثه من أحد، أو يجاري به غيره:
"لو واحد فقط | لكان قد كفى | فكيف لو كان، هناك، في الغصون: بلبلان!"
اعتنى الشّاعر في سبيل تحقيق الغناء بما يسمّى الفضاء النّصّي في القصيدة. الفراغ له نغم، والحرف، والنقطة، وغير ذلك، الأمر الذي ساعده في كتابة قصيدة يكون فيها المحذوف أكثر من الموجود:
"وحدها/ الأكمة/ – وفق قانونها – / تجلس القرفصاء/ كانت الروح/ عاريةٌ/ مثل أرض/ وطيّعةٌ/ مثل ماء/ وكالحةٌ كاللحاءْ/ كانت الروح/ مضروبة بالعصا/ وهي سيدة الكبرياء
أبيات عديدة غير موجودة في النصّ، وتلقي الضوء على المعنى، وتضيف إليه، وبالتالي تغدو القصيدة متداخلة، موزّعة بين الفكر والوجدان اللّذين تمسكهما آصرة ينجح الشّاعر في جعلها قويّة إلى درجة أن لا قوّة قادرة على تفكيكها؛ الفكر يصبح عاطفة مفهومة، كما أن الوجدان يغدو عملاً ذهنياً يقوم به قلبٌ مفكّر:
"اليتامى يتامى .. لا أزاهير أو ذكريات | لك شكري الجزيل | أيها (الشوكران) | إذ تأوهتَ من ألمي.. | وحثثتَ خطاك".
يريد الشاعر أن يصوّر آلام الإنسان في هذا العصر، لكنه آثر أن يكون الفكر متوارياً خلف القلب، حيلة فنية تزداد فيها حساسيّة الموقف، وثورة الهواجس، ويكبر فيها في الأخير حجم الأثر. أو أنه يُنزل الذّهنَ في القصيدة مكان القلب:
"تعال واجلس ولا تقل/ إنها ثآليل/ بل/ براعم"
أخبرني الشاعر في أحد اللقاءات إنه لا يستعجل القصيدة. ينتظر أحياناً شهوراً وشهوراً ثم تنتابه فجأة شهوة عارمة للكتابة عن شيء لا يوصف، أو عن موضوع لم يجرّبه أحدٌ، وهكذا جاء شعره جديداً وبارعاً. لا يمكننا التفكير بغير القوة السّاطعة للشعر عندما يحيي الماضي ونحن نقرأ قصيدة "لن تكون ابناً لإيثاكا", أو "في عيد البوقات"، وغيرها. عندما يُكتب الشعرُ عن الماضي فإنه يمضي قدماً إلى ما هو أبعد.
كما أن الشاعر الذي يرى لاهوت الطبيعة جزءاً منه تظلّ روحه جميلة كرائعة من روائع الطبيعة، ليس تشبّباً أجوفَ بحياة الريف، إنما رؤية واعية لعلائق مميّزة تطورت بفضل الشّعر: "بين آونة وأخرى | يلقي علينا البرق | بلقالق ميّتة"، وهذا المشهد ليس فوضوياً مبالغاً فيه أو زائداً عن الحدّ، بل صورة وافية تدلّ على تشبّع روح الشاعر بكل ما في الكون؛ الحياة والموت، السماء والأرض، الجحيم والنعيم...
قال له المصوّر مرة إنه لا يستطيع أن يمسك وجهه في الكاميرا. جميع صور الشّاعر الفوتوغرافية مزيّفة. وجه حسين عبد اللّطيف مرسوم في قصائده: "وجهي عشيق التراب" و"أرفع وجهي خطوطاً | وأكتب مرثية للسماء" و"وجهي | غرفة | تجمع شمل العائلة" و:
"أريافٌ تنهض في وجهي/ وصباحاتٌ/ تستقبلني/ أرغبُ/ في أن أصبح/ شجرةً
وأرافق نهراً".