جودت هوشيار
احتل ارنست همنغواي مكانته الرفيعة في الأدب الحديث بفضل اسلوبه الواضح والبسيط ظاهريا، الذي سمّاه بالجبل الجليدي العائم ، فهو يقول الكثير باستعمال القليل الموجز من الكلمات ويكتفي بالتلميحات والتفاصيل الدّالة.
نصوص تتألق معانيها العميقة ضمنياً. ويلعب القارئ هنا الدور الاساسي في فهم النص وتفسيره. ويفهمه كل مثقف حسب وعيه وثقافته وادراكه لمضامينه واحساسه بجمالياته. أي أن ثمة مستويات عديدة للفهم والاستيعاب. وكان همنغواي يقول:" القصة الجيدة، هي تلك التي يحذف منها اقصى ما يمكن حذفه. واذا كان الكاتب يكتب بنصاعة، فإن بوسع القارئ فهم ما هو مخفي بسهولة. ولقد جسّد همنغواي نظرية " الجبل الجليدي العائم " على نحو رائع في قصته القصيرة " تلال كالفيلة البيضاء ". القصة على شكل حوار بين رحل أمريكي وفتاة تُدعى جيغ، ويحاول فيه الرجل اقناع الفتاة بإجراء عملية ما ، دون ان يفصح عن نوع العملية، ربما كانت اجهاضاً.
لا توجد في القصة أية اشارة الى ان الفتاة حامل، ولكن القارئ يفهم أن الأمريكي لا يريد ان تنجب الفتاة طفلا، ويؤدي ذلك الى تهاوي علاقتهما، ويشعران ان افتراقهما أصبح امراً حتمياً.
استطاع همنغواي في بضع صفحات وباستخدام الحوار فقط، ان يصف التأريخ الكامل للعلاقة بين الرجل الأمريكي والفتاة. ولكن القارئ يقرأ ما هو مضمر في هذه القصة الرائعة بكل سهولة. وصفوة القول إن الغموض من ملامح القصور الفني أو العجز الابداعي، إذا لم يؤدِّ غرضًا فنيًّا صرفًا، في حين ان الغموض الذي يستدعيه الفن هو مزية ايجابية