TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: عامي شامي

كلامٌ عاديٌّ جداً: عامي شامي

نشر في: 9 فبراير, 2021: 10:45 م

 حيدر المحسن

الرواية الأشهر بيننا هي "الرجع البعيد"، فيها نظرة فاحصة وغير متحيزة للحياة السياسية في العراق، وكيف قُتل الرجلٌ الذي رأينا رسمه في صفحة القمر:

"كانت الانفجارات تصكّ الآذان، عالية في ذلك المكان المفتوح؛ وكان الجوّ الجميل والسماء الصافية الزرقاء يوحيان بفرح طفوليّ لا وجود له على الأرض".

إنه يوم 8 شباط، السماء اختلفت فيه مع الأرض، كما تخبرنا الرواية، وسوف يستمرّ الخلاف منذ فجر ذاك الاثنين الذي كان يشبه أيّ فجرٍ بغداديّ هادئ، لكن ما جرى فيه يوثقه أهل العراق دقيقة دقيقة، ولحظة بلحظة؛ عند الثانية ظهراً يحضر حسين – أسماء شخوص الرواية معروفة لنا – إلى البيت الذي يضمّ العجوز، والحاجّ، ومدحت:"الأخبار رهيبة مدحت. رهيبة" يقول حسين, وكان يأكل تشريب الطماطة، والمرق الأحمر يلوّث فمه وشاربه وقسماً من خدّه. يتابع: "لكن راح يروحون ضحايا هواية. على بختك. عامي شامي".

لا أريد الحديث عن الرواية، لأن النقاد أشبعوها شرحاً أكثر من أيّ كتاب أدبيّ آخر، ولا أتكلم عن العامي شامي؛ طريقة موت العراقيين التي صارت امتيازاً منذ ذلك التاريخ: "كان الهدير بعيداً، مخيفاً مستمراً، ينصبّ في أذنيه من فم النافذة المفتوح. خطوات خفيفة في الباحة الخارجية. رشة من الطلقات المتتابعة؛ والهدير، الهدير. هناك مَنْ يدفع الباب".

ذكريات الأيام الحزينة التي عشناها، واخترقت قلوبنا، وتركت فيها آثاراً تقدم لنا المواساة، والتعزية. كأن ميتات العراقيين ليست سوى حوادث تتم بالصدفة، دائماً وأبداً. كان المطر يتساقط بحزن، والساعة تشير إلى ما بعد الثالثة والنصف، والانفجارات مختلفة الأصداء تتردد دون انقطاع. يلفّ الحاجّ نفسه ببطانية خضراء سميكة ويجلس على السرير، يحكي للا أحد قصة حياته. هنا يبدأ الفصل الأكثر إثارة وأهمية في الرواية، في رأيي، ولم أجد لدى النقّاد التفاتة جادّة للحلم المديد الذي كان الشيخ يعيشه، ويرويه لزوجته بكلمات تختلط فيها العربية مع التركية:

"بالكوت جانم. بحصار الكوت، داعيك موجود. وصلنا من قصر شيرين إلى السبيليات".

كان الأتراك يقاتلون الروس، وفاجأهم اندفاع الإنكليز في العراق. يقرّر خليل باشا انسحاباً سريعاً من تلك الجبهة لغرض مجابهة الجنرال طاونزند وردّه إلى مدينة الكوت، حيث أحكم عليه الحصار. يروي فؤاد التكرلي الأحداث عن طريق استبطان الوقائع المأساوية، وإدخالها في اللغة؛ الوقائع عرجاء، واللغة المستعملة عرجاء:

"نبديد. هلكان وصلنا. راسي خليت على إيدي ونمت جانم مثل زمال على الكاع، بالطريق العام. جا الخيل راد يسحكني".

يلتفت الحاج في الأثناء إلى الماضي بتبجيل وتسعد روحه وهو يتذكر أسماء الجنود القتلى من العراقيين:

"خريبط مخربط دشر. كلاص بطوش. معيدي ندوان واوي".

عامي شامي. الموت يضربنا جميعاً. من الشمال والجنوب والشرق والغرب. عامي شامي. كان الحاج يتلو الأسماء بطريقة الإنشاد، وهو يهز رأسه:

"فراكه جثير عراك. شبوط سماري".

يتداخل الكابوس مع الواقع، ولا يميّز الشيخ بين وقائع الحرب وأحداث يوم الاثنين. سمع انفجاراًعالياً، كأن الأرض تحته اهتزّت، لكنه يبقى يتذكّر الجنود:

"شناوة عيال مناتي. حميد حنون دالبوري".

سؤال: لم يؤكد التكرلي على الأسماء القديمة، المندثرة تقريباً في الوقت الحاضر؟

في كل حقبة زمنية يموت جزء من الماضي، ماضينا، ويقوم غيرنا بدفنه بطريقة لا مبالية. المغول كانت لهم حصة. الأتراك. الإنكليز. العسكر.

الأميركان... هل يحلّ يوم نكون فيه، نحن العراقيين، بلا ماضٍ؟ ينسى الحاج الاسم الكامل لأحد الجنود:

"جحف.. جحف.. شنو؟".

بينما كانت تنمو في نفس الوقت ذكرى آخرين جيداً في روحه:

"مكوطرد مدهوش. ويكان دخينة شذر. بطي ماجود".

كان البيت يهتزّ بالانفجارات، والهواء بارداً في الحوش, الطلقات تلعلع.

يجهد الحاجّ أن يتذكر الاسم كاملاً، ويفشل:

"جحف.. جحف.. شنو؟".

ثم يبطئ في الكلام، وتتوقف حركة رأسه. ينام، ويطلق شخيراً يعلو على صوت الرصاص.

الجحف هو مَنْ لا يذكر أحد أباه، ومن ننساه جميعاً، وهو الجزء من الماضي الذي يسلبه الغزاة منا، فهنيئاً لهم.

ظهرت أقمار كثيرة، وغابت أقمار كثيرة، ويبقى القمر الذي رأينا فيه زعيمنا الأوحد ماثلاً في سمائنا إلى الأبد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

(المدى) تنشر نص قرارات مجلس الوزراء

لغياب البدلاء.. الحكم ينهي مباراة القاسم والكهرباء بعد 17 دقيقة من انطلاقها

العراق يعطل الدوام الرسمي يوم الخميس المقبل

البيئة: العراق يتحرك دولياً لتمويل مشاريع التصحر ومواجهة التغير المناخي

التخطيط: قبول 14 براءة اختراع خلال تشرين الثاني وفق معايير دولية

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram