طالب عبد العزيز
أشهدُ أنني عشت زمناً لا حاجة للناس فيه الى النقود، إنما هم يقايضون حاجاتهم ببعض حاجات عند آخرين، يُتفق فيها على مقدار هذه، وزنة تلك. كأن يقول أحدُهم لصاحبه: تريدُ تمراً؟ أعطني نصف زنته بطيخاً، تريدُ حنطةً؟ اعطني مقدارَ مُدٍّ منه شعيراً، تُريد بيضاً أو حليباً أو لبناً ؟ اعطني ملء زنبيلٍ حشيشاً، أو هبْني من حقلك مشارة برسيم. على هذه وجدتهم أبشَّ وجوهاً، وأندى يداً، وأرقَّ قلوباً، وأكثر تراحماً.
كان الرُّطب والعنب في جنوبي البصرة لا يُباع في أسواقها، وكذلك ماء الورد، والطلع، والحليب، واللبن، والسَّمن وغيرها، إنما هذه حاجاتٌ تتهادى، الذي يباع هو التمر، وإذا نصب أحدهم شباكاً في نهر من الأنهار دعا الناس الى صيد السمك فيه، فترى القرية كلها قد أخذت حصتها منه، وشبعت البطون. وإذا بحثتَ عن أجير تستأجره لبستانك فلن تجده، أطلب مساعدة من تصادفه في طريقك، ستنشقُّ الأرض عن حارثين، وباذراين، وحاصدين، وغارسين، وصاعدي نخل .. كلُّ يقول لك: أنا لها.
وإذا أردت أن تشيد داراً لعيالك، شيدوها لك، بأعجل ما يكون، كل من حولك سيأتيك شاهراً جسده، وإذا أشعرتهم بحاجة نفسك في شيءما، جاؤوك بما لا تتخيله، وإن ضامك الدَّهرُ يوماً وجدتهم عندك، بما فيهم من عزْم وبذل ومواساة، ولن يفارقك أحد منهم إن طغى ماُء النهر على ما غرست وانتظرت، سيقفون بأجسادهم دكاً دكاً على حدود بستانك، فلا تندب حظاً عاثراً هناك، ولا تتبرم إن لم يحالفك موسم ما، فلن تجوع بينهم، ولن تعرى تحت سماء لطفهم، فهم الاهل والعشير، وأنَّ كان دمُك غيرَ موصول بدمهم، وإن كنتُ لا تحمل نسباً معروفاً بينهم. الناس هنا من طين وماء ونخل، دينهم الوفاء، وطائفتهم المودة والرضا، وإمامهم الخير حيث يكون.
أشهدُ أنَّ قفل باب بيتنا كان قضيب حديد، يدعونه (هِيبْ) هو مما يستعمله الناس في شرح الجذوع، وهدم حيطان الطين القديمة، يوضع مائلاً على الباب، بما لا يمكّنُ الوحوش من اقتحام البيت وترويع من في البيت من النساء والأطفال والبقر والدجاج والأوز، فلا لصوص هنا، وأخصاص الناس آمنةٌ كلها، إلا من خنزير وحشي آبق، أو من ذئب لحقته الكلاب، أو من ثعلب ماكر جائع ، هؤلاء هم خصومنا في الليل، أما في النهار فلا خصوم ولا هم يحزنون، والناس آمنين على ما عندهم، راضين بما قسّم البارئ لهم. بندقية واحدة تكفي لترويع "أفق من الذئاب" وطلقة واحدة مجزيةٌ لطرد قطيع من الخنازير، أما الثعالب فحسبها جرو صغير .
من يُغيثنا اليوم مما في بيوتنا من الرصاص والبنادق؟ ومن جيران لا نأمنهم على أبخس ما نملك، من يستبدلُ خصومنا الآدميينَّ بوحوش القرية تلك، التي كانت تداهمنا ليلاً، من يأخذ بأذرعنا الى بستان نُعين صاحبَه على غرس أو جني، هو مما كان له ولنا ذات يوم، من يدلّنا على بيت تناهبته عاصفة البارحة، فنلمُّ عليه حياطينه الطين وسقفه الجذوع؟ من يستغيث بنا من ماء طغى بأرضه وروّعه، ومن يستعين بنا على سماء ادلهمت عليه، ومن نخل تعاظم ثمره فهو لا يستطيعه جنياً وحملاً؟ من ؟ ومن ؟ .