طالب عبد العزيز
في المدن التي تتجنبُ تسميتها، في الجنوب الذي كان الى البحر وما يزال، في الأرخبيل الرطب، ذي القوارب الألف، ينتزع الحكامُ اليافطاتِ والعلاماتِ الموصولة بها والدالة عليها، ويستبدلون الأرض والسماء والهواء، بما في قراطيسهم من الظلام والصلف والهراوات، هم يريدون من طواطمهم أن تملأ أزقتها فزعاً ،
ومن خرائطها القديمة أن تظل ممددةً على الطاولات، مصلوبةً في الحيطان، وفي الأقبية السود، حيث لا يفكر أحدٌ بتذكرها عند نقاط الحدود، لا يسحرهم شكلها الذي كان، فهي ومنذ عقود مضت تستغيثُ في الصور. كل أسماء مطاعمها توحي بالتقزز، ولا تسمع في مقاهيها أغنية عن الماء إلا منقوعاً بالدمع والندب، فلا أحد يأخذ بيدك الى متنزه على النهر، وفي لحظة تطهرها من الزناة والرواة والكاذبين، في اللحظة العلوية تلك، هناك من يشعل الحرائق في جسدها.
يقول شاعر المدينة، الذي لم يذهب لمكة حاجّاً:" أنا، لا أراها.. أنا أتذكرها حسب". تذبل المدنُ في ذاكرة أهلها إذا ظلت تنأى في وجدانهم شيئاً فشيئاً، والمدينة حيث يسكن هذا وذاك ستظل تنأى الى أمد بعيد، ذلك لأن ما تمزّق من صورها على الأرصفة، وفي تقاطعات الطرق الى جهاتها الألف جعل منها مجرد ذكرى مدينة. ربما يجد مؤرخو المدنِ الحججَ للمدن التي تنشأُ حديثاً ثم تنهار، في باب من أبواب تذليل الأسباب، لما يحدث ، وقد تغامر جماعة من البنائين فتقوم بين أيديهم مدينة جديدة، على وفق ما بحوزتهم من الخطط والطابوق والأعمدة والإسمنت، لكنَّ صلاح الحواضر أمرٌ صعب، أو شبه مستحيل،في حال ضياع الخرائط، وانعدام الهويات. في المدينة التي كانت، المدينة الوهم، حيث يتأمل الناس المصائر، هناك جدار ضخم في الروح، يحتمي تحته نفر قليل منذ عقود.
في حفلة الأخذ بالنواصي، تستبدل البلدية اسماء الشوراع والمدارس وأفران الخبز ومحال البقالة أيضاً، فتضع أسماء غريبة، تأخذها عن معجم فطير لم يبوّب بعد، أو تستلها من أسلاب شخصيات ووقائع تكونت خارج الزمن التقليدي للمدينة، اسماء ملغّزة، لا خضرة في ديباجة حروفها، ويجهلها السكان، ولا فضيلة لها سوى أنها تضاء بالنيون ومصابيح اللدّ البيضاء. البلدية لا تحدّث في الخرائط، فهي لا تملك مفاتيح خزائن الخطوط، هي تمحو، حسب، إذ كل مولود لا يمتدُّ حبله السريّ عميقاً في الأصلاب، التي تناوبته، صاعدة ونازلة فيه هو عارض، لأن الجوهر يتصل والعارض ينقطع ، وكلُّ مبنىً لا يسمّى منتزعاً من عرقٍ غائر في الأرض، موصول بالماء والطين والجدار الضخم، ذاك، الذي في الروح، هو طفح جلدي، عاهة، وإن كتب بماء الذهب، وأضيء بالفضة، بل كلُّ جسرٍّ لا تستل مادة طلائه من ألوان طيف المدينة، الموصوفة في الخرائط القديمة، لا يصل بين ضفتين، وإن مدَّ الى النهايات.
يأتي الهواء من الشط حامضاً، كبريتياً، هو مشبع حدَّ الموت برائحة اليافطات الكثيرة، حيث تنعدم الحياة هناك. في إختلاف الناس الى حاجاتهم، في رواحهم وغدوهم اليومي، ثمة من لا يجدُ في ذلك تقطيعاً للأوداج.