علاء المفرجي
يعد ريجيس دوبريه فيلسوفاً مهتماً في واحد من أهم المجالات في الفلسفة المعاصرة، ذلك هو مجال التأثير المؤسساتي للدولة في إعادة تشكيل وعي الفرد عبر تقنية الإعلام، في تطوره الالكتروني ومن خلال (الصورة) التي تعد أهم عناصره.
من خلال كتابه (حياة الصورة وموتها) بترجمة فريد الزاهي. فقد جعل منه هذا الكتاب فيلسوفاً يمتلك منظوراً منهجياً صارماً هو تأمل في تطور الصورة عبر مراحل تاريخية مختلفة من الأشكال البدائية الأولى انتهاءً بما يطلق عليه (القنبلة الرقمية).
واختيار الكتاب للترجة العربية ، كما يرى مترجمه فريد الزاهي أنه ينطوي على طابع تنظيري وتحليلي من جهة، والى كونه يعتبر في نظرنا من أهم المصنفات الفكرية في مجال الصورة، من جهة ثانية. يقول مترجم الكتاب:" صحيح أن كتاب دوبريه درس في الوسائطية العامة سابق على هذا المؤلف ، غير أن كتاب حياة الصورة وموتها أقل تنظيراً وأكثر تحليلاً. أنه لايبني نظرية بقدر ما يمنح القارئ العناصر الكفيلة بتمثلها. فقيمته تكمن بالاساس في منظوره الفلسفي، وفي غناه الفكري وفي طابعه التساؤلي النظري."
تضمن الكتاب ثلاثة أبواب هي: (مرحلة تكوين الصورة) و(أسطورة الفن) و(ما بعد الفرجة) إضافة الى اثنتي عشرة أطروحة ومسألة أخيرة. يقول فيها دوبريه:" الصورة، على عكس الكلمات، في متناول الجميع، بجميع اللغات وبدون حاجة الى أي تعليم. فالبرمجة المعلوماتية توحد طبقات برج بابل بكاملها من بكين الى نيويورك مروراً برأس الرجاء الصالح، لكن، بمجرد ما تطفأ الشاشة يتبقى الوصول الى البصائر التي تنظم كل عالم مرئي."
مايهمنا هنا في كتاب دوبريه هو الجزء الذي أسماه (ما بعد الفرجة) الذي يتحدث فيه عن تأثير الصورة الفوتوغرافية على الرسم ثم تأثير السينما على ظهور التلفزيون الملون، ثم تأثير التلفزيون الرقمي على هذه جميعها..
(يوميات كارثة) هو العنوان الذي يختاره دوبريه ويتابع فيه تأثير الصورة الفوتوغرافية على الرسم التي اثمرت عن ارتقاء هذا الأخير عبر إعادة اختبار مصادره الخاصة بغية امتلاك تفرده.. ثم ظهور السينما التي يرى دوبريه أنها سيدة الفنون جميعاً، بأعتبار أن الفن السائد هو فن الفنون، أي ذلك الذي يملك القدرة على إدماج أو تشكيل الفنون الأخرى على صورته، الفن الذي تتجلى منه وحدة شعورية، تعطي كمّاً اكبر من المعاني.
الرسام الفرنسي فيرناند ليجيه ومن فرط وقوعه أسيراً في شراك السينما، كان عليه أن يهجر الرسم، تماماً مثل (فرانسيس بيكابيا) أو (مان راي) وهو مايؤكد وقوف هذا الفن في مواجهة الفنون الأخرى، بوصفه أكثر أصالة.
وفي الوقت الذي ظل فيه التصوير الفوتوغرافي أكثر من نصف قرن يسعى للتقرب من الرسم، فإن الرسم حقق ذلك منذ اللحظة التي أعلنت فيها السينما عن وجودها، وهكذا يلجأ كل من (دوشامب) و(جوان جريس) و(بيكاسو) الى المونتاج، وتسعى كل من التكعيبية والمستقبلية بذكاء فطري للتطفل على هذا الوليد التقني الجديد.
إنه الفن الأكثر قرباً من وسائل الاتصال... ولم يعد أن نذهب لنشاهد، تعني زيارة معرض، وانما الذهاب الى السينما، إنه الفن الذي يذهب النوم عن عيون المراهقين، إنه القمة اللامعة للمظهرية الاجتماعية.
يرى دوبريه أن للشعراء السبق على الفلاسفة في الاعتراف بالسينما كفن. فقد أدرك أبولينير وأراغون وبريخت وبريفير منذ البدء رهانات هذه التقنية، الى حد أنهم عملوا في السينما.. ولم يتغرب الكتاب إلا قليلاً بهذا الاختراع البصري، الهجين بين (السوقي) و (المتأدب) بين (الشعبي) و (النخبوي)... فقد تعاطت السينما منذ بدايتها في المكتوب والمطبوع.. وأغلب الأفلام المشهورة قد محت وميّزت في الآن نفسه نصوصاً كبرى من روايات ومسرحيات.
وانطلاقاً من أن للأيام، غروبها الضروري، فإن دوبريه يرى ومن خلال رصده للتحولات التاريخية للصورة، أن العنصر السينمائي غداً (شيء ينتمي للماضي).. على الرغم من أننا سنظل نرى أفلاماً رائعة لزمن طويل.
يقول دوبريه في كتابه: «حين يغدو كل شيء مرئياً، فلا شيء يغدو ذا قيمة، فتجاهل الاختلافات يتقوّى مع اختزال الصالح في المرئي والمظهر، باعتباره مثالاً يحمل في طيّاته جرثومة فتّاكة تتمثّل في التشابه، فتحظى كل المُثل المتميزة بعيانية اجتماعية قوية، وما ينتج عن ذلك هو أن لغة الأغنى، تصبح لغة كل الناس، وقانون الأقوى هو القاعدة المثلى».