لطفية الدليمي
وقفت الفتاة ذات الوجه البلاستيكي تخبرنا بآخر فتوحاتها النفسية في معرض ترويجها لحذاء رجالي ذي ماركة عالمية :" سأخبركم شيئاً . نحن - معشر النساء - يبدأ اعجابنا بالرجل في اللحظة التي نرى فيها شكل وماركة حذائه ! " . هذه ألاعيب تسويقية بائسة ، وأظنّ أنّ الغشيمات وحدهن من يتقبلن كلاماً سطحياً مثل هذا .
لكن من الطبيعي والمعقول أن نتساءل : ماالذي يجذبنا أول الأمر عندما نحادث إمرأة أم رجلاً ؟ أو لنسأل بطريقة أخرى : ماالذي يكشف لنا طبيعة من نتحادث معه وبخاصة عندما لانكون قد تعاملنا معه / معها من قبلُ ؟
يُقالُ في مأثوراتنا الشعبية " المرء مخبوء في أصغريه: قلبه ولسانه " ؛ أما القلب فهو عضو بعيد عن العين ، واللسان - مثل القلب - بعيد عن العين ؛ فأنى لنا أن نعرف مايختزنان من مخبوءات ؟ ربما يناسبُ هذا المأثور الشعبي من كانت له معرفة بالفراسة البشرية التي برع فيها أسلافنا، ويبقى الأمر تخميناً وتقليبَ أوجه نظرٍ وربط مخرجاتِ اللسان مع بعضها . لكن بوسع أي شخص أن يصرح بلسانه بغير مايبطنُ قلبه. ( من فضلة القلب ينطق اللسان) كما تخبرنا عبارة في سفر الأمثال ؛ لكنّ مجال التلاعب وممارسة الخداع يبقى قائما .
لم أقتنع يوماً أنّ المرء مخبوء بين أصغريه ، مثلما لم أقتنع بالعبارة السقراطية البليغة " تكلّم كي أراك " . العين عندي هي المرآة التي لاتخطئ الكشف عن بواطن صاحبها . لماذا ؟ لأنّ اللسان باعتباره السبيل الكاشف عن مخبوءات القلب يحتاج وسيطاً (هو الصوت) ليبلغ رسالته إلى الآخرين ، والصوت ظاهرة فيزيائية يمكن للمرء أن يتحكّم بها بطريقة تجعلها قادرة على تمرير رسائل محدّدة تخالف بواطن المرء . هل يصحّ هذا الأمر مع العين ؟ لاأظنّ مهما بلغ المرء من مقدرة فنية على اصطناع المواقف .
تأسرني كثيراً نظرات آينشتاين التي تبوح بروح طفولية منزّهة عن سخافات هذا العالم . جرّب أن تنظر في عيني آينشتاين في أية صورة له قد تعثر عليها ، ثم قل لي ماذا ترى ؟ قرأت كثيراً عن السير الذاتية والسير العادية لعلماء وروائيين وشخصيات عالمية ، وقد أدهشتني حقيقةُ أنّ تكوينهم النفسي كان ينعكس في عيونهم إلى درجة عجيبة : فيرجينيا وولف وعيونها التي تبدو أنها تحدّق تائهة في فضاء مفتوح النهايات، الشغف المتأجج الذي ينبعث من العيون النزيهة للرئيس الهندي الأسبق عالم الصواريخ والشاعر (عبد الكلام) ، العيون الغامضة التي تكشف عن عقل يفكّر خارج نطاق هذا العالم لدى الفيزيائي البريطاني ( بول ديراك)، نيران الرغبات المشتعلة والتوق لحياة حسية تُعاشُ لأقصى مدياتها لدى الروائية ( أناييس نن ) ، والأمثلة لاحصر لها .
العراق دولة فاشلة، هذه حقيقة أقولها وقلبي يكاد ينخلع؛ لكني أعرف أنّ المراوغة والالتفاف على الحقائق لن يفيدنا في شيء . سيُكتبُ - وقد كُتِب بالفعل - الكثير عن الأسباب التي دفعت العراق ليكون دولة فاشلة ؛ لكني سأشير إلى معيار إجرائي دقيق يمكن للجميع الركون إلى مصداقيته : أنظر في عيون من شاءت الأقدار أن يكونوا قيّمين على مقادير العراق، ثم تأمّل نظرات الكياسة والمحبة التي لاتحدّها حدود في عيون رئيسة وزراء نيوزلندا أو ألمانيا أو الدنمارك أو رئيسة كرواتيا ؛ عندئذ ستدركُ حجم الهوّة التي ابتلعت العراق وصيّرته دولة فاشلة .