علي النجار
مقدمة:
بسبب من ردة الفعل على الزمن الحداثي الفني تسللت الأفكار الراديكالية التي لها علاقة بالتقدم التكنولوجي المضطرد
وما رافقه من مفاهيم طليعية منذ ستينيات القرن التاسع عشر حتى خمسينيات القرن العشرين في المجال الثقافي والفني. وكانت(الدادا) الأولى ثم التعبيرية والدادا الجديدة وفن البوب في الخمسينيات بأشكالها. ثم دخلت فنون أخرى كالفن المفاهيمي والحد الأدنى وفن الفيديو والتركيب والأداء. كردود فعل ضد الأنماط الفنية الحداثية السابقة، بما استحدثته من طرق ساخرة ومرحة تعارض بها مفاهيم الأصالة في الفن والتسلسل الهرمي للثقافة العالية والهابطة والروايات الرئيسة عن المعنى. وكأساليب تحمل غالباً موقفاً ما من التاريخ والثقافة وتحولاتها العامة.
بما أن بعد الحداثة سعت للتشكيك بالذاتية والحتمية. وكعصر هيمن عليه المرح والتهجين والنسبية والذات المجزأة. كما في الأيديولوجيات وتحولات العصر الجديد، عصر اللا حقيقة والأخبار المزيفة. مما أدى الى البحث ومنذ بداية قرننا الحالي عن منافذ للخروج من المعاصرة نفسها التي استهلكتها أزمنتها، أو أزمتها، بمحاولة ولوج زمن أكثر جدة. كزمن الحداثة الجديدة، أو المادية الجديدة، وما بعد الإنسانية، وما بعد الألفية، وماركسية ما بعد الحداثة العابرة للقوميات باعتبارها ثقافة معاصرة، وحتى العودة للحداثة البريئة. ولكون ثقافتنا المعاصرة لا تزال تمثل منطق الرأسمالية العالمية النيوليبرالية وأزمتها الحالية، فلا يزال السؤال حاضراً في البحث عن البدائل والاحتمالات.
يذهب نقاد مثل(كريستيان مورارو، وجوش توث، ونيل بروكس، وروبن فان دن أكير، وتيموثيوس فيرميولين) بالإشارة مراراً الى سقوط جدار برلين في عام(1989)، والألفية الجديدة، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وما اصطلح عليه بالحرب على الإرهاب، وحروب الشرق الأوسط، والأزمة المالية العالمية والثورات العالمية التي تلت ذلك. كلها مجتمعة تشير الى فشل الوعود الرأسمالية العالمية وخيبة مشروع ما بعد الحداثة النيو ليبرالي والذي من ضمن ما أنتجه مؤخراً انقسام اليسار والتطرّف اليميني. ضمن هذا الفضاء العولمي الملتبس، توسعت الأداءات الفنية وبشكل خاص التفاعلية منها لتكسب شعبيتها بما أنها تشاركية، لا مجرد تجارب شخصية للفرجة.
الفن التفاعلي:
الفن التفاعلي بشكل مختصر، هو الفن الذي يعتمد على مشاركة المتفرج. ولم يكن وليد زماننا هذا. لكن تم دفعه وتفعيله بشكل مطرد من خلال حقبة جديدة أحدثتها التكنولوجيا والإنترنت وتغيير كبير في الثقافة اشتغالات طليعة قطيعية جديدة لا تمت لسواها. وكإبداعات حداثية في كثير من الأحيان تشجع الزوار على المشاركة في وسائطها ووسائلها الفنية المتاحة للآخرين. وما حدث من تنامي الشعور بالمزيد من المشاركة من قبل المتفرجين لجعل هذه الحركة الفنية مفيدة للغاية للفنانين وأولئك الذين يساهمون ويختبرون كل قطعة فنية تقدمها والتي توفر لرواد المعارض مساحات أدائية مناسبة ليضيعوا فيها. أو ليصبحوا مفتونين بالتصريحات الفنية التي تجمع بسلاسة ما بين التكنولوجيا والتصميم والصوت وجماليات الرؤية التي تقدم لهم. بما تحمله هذه التركيبات الفنية التفاعلية من إشارات في زمننا الحالي الى كونها تمثل حقبة جديدة في مجال تطور الفنون.
ما عدا أمثلة تاريخية قديمة نادرة، تم إنشاء الأعمال التفاعلية منذ عشرينيات القرن العشرين. كما قطعة مارسيل دوشامب(لوحة زجاجية دوارة) حيث يتم الوقوف على مبعدة مسافة متر لرؤية الوهم البصري، ولتؤدي الغرض الذي من أجله صنعها. أما الأفكار الحالية والتي انبثقت منذ الستينيات، فقد كانت في البدء لأغراض سياسية جزئياً. وفي السبعينيات بدأ اشراك التكنولوجيا، كالفيديو والأقمار الاصطناعية لبث العروض الحية صوتاً وصورة. وليصبح الفن التفاعلي بعد ذلك ظاهرة واسعة الانتشار في زمن التسعينيات بسبب الكومبيوتر وللتوسع هذه الظاهرة الفنية لمديات أكبر منذ هذا التاريخ.
طرح الفكر والفن المفاهيمي وجهات نظر وأداءات خارج الأطر الحداثية المعروفة. ولعبت الفلسفة التفكيكية دوراً بارزاً في معالجة تأصيلها الزمني. ومن هذه الأداءات ما اصطلح عليه بالفن التفاعلي بعد أن مهدت حركة (الفلوكوس) الألمانية ما بين الستينيات والسبعينيات للمنحى الاجتماعي البيئي. والتفاعلية هي حركة تواصل وجذب بين طرفين المؤدي والمشاهد المشارك بأي طريقة ما، وأحياناً عن طريق تقديم مداخلات لتحديد النتائج. على عكس الأشكال الفنية التقليدية حيث الفرد مجرد مستلم لحدث عقلي. وللتفاعل في العمل التفاعلي أنواع مختلفة: مثل التنقل خلال المساحة أو الفضاء الذي يوفره العمل الفني، أو التجميع أو حتى المساهمة في الأداءات أو التدخلات المختلفة لتغيير أو تحديد النتائج، والتدخلات هنا تدخل كوسيط ينتج غالباً معنى مضافاً لم يكن في بال الفنان صاحب المشروع.
في الأعمال التفاعلية يعمل الجمهور وجهاز أو مجموعة الأداء سواء كانوا فرداً أو جمعاً معاً على ابتكار حوار غالباً ما يكون فريداً. لذلك فان كل فرد مشارك سوف ينتج أو يتخيل ليس نفس الصورة، مما يؤدي الى توسيع أغراض العرض. إضافة الى أن ما يفسره من معطيات العمل سوف يغني رؤيته الشخصية ويوسع مداركه بشكل عام. ولا يهم إن كانت سلباً أو إيجاباً. المهم أن يكون لكل من الطرفين دوره الذي يجد نفسه يجيد لعبته. بالتأكيد ليست هي "لعبة استغمائية"، وأحياناً إن تكن، بقدر من كونها عملاً فنياً متاحاً للكل، وليس لصانعه أو المفكر به الأول فقط. من هنا يصعب تقييم الكثير من الأعمال التفاعلية. هل هي حقاً تستحق أن نطلق عليها فناً أم لا. فكلما زاد نمو عناصر الفن المضافة أو المؤولة أصبح تعريفه أكثر غموضاً. بشكل خاص عندما يختلف عن الأشكال الفنية التقليدية ويعتمد على الجمهور للمشاركة وللمتابعة.
جرب الفنانون وسائل الأعلام المختلفة بعد أن تطورت أجهزة الكومبيوتر والتكنولوجيا في الحياة الحديثة واستخدامها تفاعلياً للتواصل بطرق مباشرة في زمننا الذي لم يعد فيه الإبداع حكراً على الإبداع الشخصي للفنان. وفي الوقت الذي يمكن أن يتفاعل الناس والعمل الرقمي أو الثلاثي الأبعاد، والمشاركة على الأنترنت، أو اصدار الأصوات أو الحركات. كما استجابة العمل الفني بالمراقبة وإنتاج الشكل والمعنى وكنوع من كسر الحدود ما بين مجال الفن والحياة .
أحياناً ما تشير أعمال الفن التفاعلي الى الفن التوليدي الذي يعتمد على(الفن الخوارزمي المنشأ على الكومبيوتر والوسائط التركيبية. ويمكن استخدام أنظمة الكيمياء والبيولوجيا والميكانيكيا والروبوتوات الذكية). لكن ما يميزه كونه يتمتع بالمشاركة أو القدرة على التصرف بطرق غير مقصودة في بناء مساره الفني، إضافة الى كونه يوفر التفاعل كعمل مستقل له شروط إنتاجه وإخراجه التشاركية التفاعلية. فهو غالباً ما يأخذ الزائر بنظر الاعتبار كبيئة متجاوبة. بشكل خاص تلك التي ينشئها المهندسون المعماريون أو المصممون. على نقيض العمل التوليفي الذي قد يكون تفاعليا، لكنه لا يستجيب في حد ذاته إلا أن يكون حدثاً فردياً. قد يتطور في حضور المشاهد، لكنه لا يوفر له الانخراط في ردة الفعل، ما عدا الاستمتاع به.
في الفن التفاعلي أو الفضاء التفاعلي، أو المشهد التفاعلي، وجد خطاب الما بعد حداثي ضالته الأكثر التصاقاً بعصره الحالي. سواء كان الخطاب المعلن أو المضمر جنسانيا، أو هازلاً، أو جاداً. واقعياً، أو خيالياً افتراضياً. ما دام عصرنا اللا حقيقي يوفر لنا منصات الكترونية وبرامج رقمية مباحة للكل، تدخلنا مباشرة كمساهمين فاعلين وليس سلبيين، وبما نحمله من خطاب صنعه الأعلام العولمي. أو ما نحن نصنعه بقناعات اكتسبناها بسبل شتى. وبأدوات متعددة منها:
(الفن الناتج عن الكمبيوتر
المسرح السياقي
الفن الكتروني
فن الفاكس
فن الإنترنيت
النحت الحركي
مشروع لايف كيوب
قائمة الفنانين التفاعليين
فن إعلامي جديد
فن الأداء
الفن العلائقي
الفن الروبوتي
فن لعبة الفيديو)
كذلك عبر أدوات تمكننا تطبيقاتها من ولوج واقع افتراضي يمنحنا حرية أوسع لريادة مناطقه. منها جهاز مشي متعدد الاتجاهات(كومبيوتر يمكن ارتداءه ببدلة مناسبة)، شاشة عرض بصرية مثبتة على الرأس، شاشة عرض رأسية، شاشة عرض شبكية افتراضية، سماعة رأس للواقع الافتراضي، تفاعلي ثلاثي الأبعاد، تتبع المشي، تتبع العين، تتبع الأصابع ،التعريب المتزامن ورسم خرائط البرمجيات....).
عمل تفاعلي على حدث سياسي:
في قاعة عرض لأصدقاء لي في مدينة مالمو السويدية(كلري ننار*) اقمت عرض تفاعلي(**) بالتعاون وأخي(كريم النجار) وكادر إدارة العرض. بالنسبة لي وبعد أن تابعت يوميات تظاهرات انتفاضة ساحة التحرير التي بدأت في الخامس والعشرين من أكتوبر(2019) احتجاجاً على فساد الحكومة العراقية، وما تخلل هذه الأحداث اليومية من قتل واغتيالات بالعلن والسر للمئات من الشباب المتظاهر بشكل متعمد وممنهج. أنتجت بالتزامن عبرهذه الأيام أكثر من مائة رسم تعبر عن حوادثها الصادمة. في تاريخ(7 سبتمبر 2019 ) ثبت هذه الرسوم على الجدار الرئيسي للقاعة، مع رسوم افتراضية(بورتريت) للشباب القتلى أركنتها على خط الزاوية الأرضية للجدار الطويل المقابل، وثبت شمعة أمام كل صورة. حين ابتدأ العرض أوقد المشاهدون شموع صور الشهداء واحداً إثر الآخر مع نعيي وإدانة مناسبة للحدث. ساهم معي أيضا المشاهدون في إلقاء كلماتهم وانطباعاتهم الصادمة عن رسوم الحدث والحدث نفسه أما جدار الرسوم وبالتفاعل معه كرمز لجدران ساحة التحرير. وتم في نفس الوقت عرض فيلم فيديو لكريم النجار(نريد وطناً) سجله مباشرة من حوادث الانتفاضة في أمكنتها من بغداد على شاشة عرض ملحقة بجهاز أوفر(برنامج اتصال واتس آب كومبيوتر ماك بوك مع شاشة عرض ملحقة بجهاز (أوفر هيد بروجكتور) قياس ثلاثة وثلاثون في متر(**) كومبيوتر ماك بوك، برنامج الاتصال واتس آب كومنكيشون بروكرام, وصالة العرض (هوم سكرين) وفرتها كادر إدارة القاعة. وساهم كادر الإدارة بالتزامن مع العرض بالتفاعل التواصلي صوتا وصورة لشخوص من داخل ساحة التحرير في بغداد كمشاركين في فاعلين في حدث العرض.
مقتطف مما قاله لـلمسرحي دكتور حميد الجمالي وبعد أن مسح دموعه(الفن هنا يقوم بمعادل موضوعي بين حدثين، الأول واقعي معاش، والثاني تعبيري إبداعي عن ذات الحدث)
وكان د. حميد واحداً ممن ساهموا في هذه الفعالية التفاعلية
(*) ـ قاعة ننار بإدارة د. أسيل العامري. ود حسن السوداني ضمن مشروع ثقافي تواصلي أكبر.
Broken Zoom (**)
(**)yg300 hemmabio biograf