TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: شاعر الشعب

كلامٌ عاديٌّ جداً: شاعر الشعب

نشر في: 16 فبراير, 2021: 09:58 م

 حيدر المحسن

أحفظ لكزار حنتوش أبياتاً من قصيدة نشرتها مجلة ألف باء في تسعينيات القرن الماضي، ولم تضمّها مجموعته الشعرية الكاملة:

لا شيء يهمّ القصّابين،

والدبس لديهم

والزوجات

وأكباد البقر الطازجة

كان الشعر يستعمل في الطقوس الدينية في مرحلة مبكرة، وبمرور الزمن ظهرت وظائف جديدة له، وصيغت له تبعاً لذلك تعريفات أخرى، من الممكن أن نضيف هنا أن الشعر الحديث هو مظهر من مظاهر العقل الحديث. في جلسات المقهى أختبر عادةً جاهزية محدّثي للحوار في أمور الحاضر بقراءة شعر حنتوش، وأرقب ردّة الفعل:

"تخدشني حتى النسمة وفاجأني المطر الأزرق صيفياً فاجأني اليوكالبتوس ينفض خضرته فوق الماء.. ها أنا ممتلئ بالعدوِ كحصان عربيّ".

التعلّات التي تديم وجود الشّاعر هي صدى لحالة وجدانية تقرب من الصوفيّة، إيمان بوجود لم يعد يعيش فيه إيمان بشيء، ويعاضد الشاعر في ما يشعر ويقول غيرُه، وهذا الغيرُ هو الذي يحتاجه للبرهان على ما يقول. إنه يعيش الحاضر بكلّ عنفوانه:

"لستُ وحيداً فالنهر معي والزهر معي والعشاق معي والفقراء..."

ذِكرُ الفقراءِ هنا ضروريّ كي يؤكد الشّاعر أن انتماءه الحقيقيّ هو إلى ججماعة صوفية غائبة. "غزالاً يعبرني الماضي ويروح". يعلن الشّاعر عن إيمانه بالفكر الصّوفيّ، ويرفض هذا الإيمان في الوقت نفسه، إنه يدعو إلى دين جديد، ويعبد من خلاله إلهاً غير الآلهة المعروفة، وعندما يتبدّل الدين في المجتمع تتغيّر أغلب طرق المعيشة.

"أمس اتصلوا.. قالوا تحضر مؤتمراً.. علّك تأتي في التاسعةِ"، هي دعوة للتعبئة الحربية التي كان يخوضها الحزب الحاكم، فيجيبهم الشاعر بكلّ صراحة:

"سُحقاً.. سحقاً.. سحقاً الخيطُ قصيرٌ.. والإبرةُ في القشّ والشقُّ عريضْ..."

هو شاعر الشّعب، لكنه لم يعطِ الجمهور الكلام الذي اعتاد عليه من قبل، بمعنى أنه كتب القصيدة الحديثة وكأن قائلها واحد من الناس، وقد استعار منه مفرداته، ووصلها بموارد جديدة، كي يستعملها بأفضل وجه. إنه الإحساس بجرس الكلمة، حتى العامية منها، وإعطائها طاقة شعرية: "آه فاحت روحي بالقداح فاحت روحي بالموسيقى والذكرى آه صبيحة.. شيشة ريحة...".

رغم فقر الشاعر، وتشرده في الطرقات، وصعلكته، استطاع كزار حنتوش، بلغته المتوقدة، وبعواطفه ولواعجه أن يجعل من شعره واحداً من أكثر الشعر العراقي الحديث لمعاناً وصفاء. إنه يصف الأشياء كما هي بالفعل، ويتكلم مع العناصر، ولا يحتاج إذناً من أحد في سبيل تحقيق ذلك.

"ها قد عبقت رائحة الأزهار البيضاء وانعقدت كسحاب فوق سريري، ودفاتر أشعاري فلأفتح نافذتي ثانيةً وأحيّي عمال (الحي الجمهوري) النشطين"

هو شاعر المعارضة الذي كان يعيش في الداخل، ويستطيع أن يمرّر قصائد تشبه لافتات تدعو إلى إسقاط النّظام، مستعملاً كثافة الصّوت العائد لعاطفة اللغة، وليس بطريقة الاستعمال المباشر لها:

أمي رافعةٌ كفيها.. إلى الله

راجية أن يفتك بالغمة..

ويريح الأمة

لا يمكن فهم طبيعة شعب دونَ معرفة الشعر الذي ينشده. عاصر كزار حنتوش جميع الحروب التي عاشها بلده، وكتب قصائد لها سمة محلية وعرقية إن صحّ التعبير، والشاعر العظيم هو الذي لديه ما يقوله لأبناء وطنه على اختلاف مستويات ثقافتهم:

(ميلوا عنا...! ما فينا الصائع والضائع والخائن والماجن ما فينا الحاطبُ في ليل والغائب في حفل الهيل)

التقويس موجود في النصّ، وهو كلام الشاعر للناس بما يشبه ال"هوسة" العراقية، وقصائد كزار عن المعركة فيها تأكيد على الحياة وليس تجهيز العامة بمشاعر العداء، وهو يغيّر بهذا مفهومنا عن السلم، لأنه يجعل الجنود يرتدون زيّاً من تفصيله، ويحملون سلاحاً يختلف. علينا أن نقف إجلالاً للشعر الذي يخاطب الورد وهو يتحدث عن الفعل المجاني للموت في إثناء الحرب: "لا تعتب يا ورد الخُبّازِ"، وفي الليل يتكلم مع البدر، وكأنه نجيّه: "لا تأسَ أيا بدر البيدررْ". الأهم في وظيفة الشعر هو حماية الناس من التفسخ الداخلي والخنوع للقوة، أو الإنجرار لها، ومن يفعل هذا العمل الجبّار غير الشاعر؟

ها ... بُدّلت الحالُ

أبداً...

فقريباً نمسكُ ثورَ الحربِ من القرنينِ

وندقّ به الأرضَ

من الغلاف إلى الغلاف يدقّ صنج الشاعر الديوانيّ عالياً إلا في قصيدة أحفظ رقم صفحتها في المجموعة الكاملة، 244، وكلّما اشتقتُ إلى كزار أذهب إليها مباشرة: هي قصيدة "الجذور". ولكن الكلام عنها يحتاج إلى مبحث كامل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram