طالب عبد العزيز
في حمّى توصيف أحوال ما بعد 2003 في العراق، ومحاولة إيجاد المخارج والنهايات لما أوقعنا فيه، بعد سنوات الخراب المتصل، والذي شمل كل مفاصل البلاد، أذكر أنَّ د. حيدر سعيد اختصر الوضع بجملة " نحن نعيش عصر ما قبل الدولة" وهو تعبير دقيق،
فقد فشل الواقعيون والحالمون على حدٍّ سواء، بخروج البلاد من حال الفوضى والارتجال الى ما يجب أن يستخلصه الجميع، من تجربة استبدال الدكتاتورية بنظام تعددي، يقوم على أسس صحيحة، من أجل الخلاص مما أوقعنا فيه، أو وجدنا أنفسنا مكبلين به، مستعينين بفضاء الديمقراطية الذي أتيح، وبالمقدار المعلوم بيننا، وبما يمكن استثماره، ومن ثم وضع الخطى الصحيحة للنهوض والبناء والتطور.
لكنَّ ذلك لم يحدث، فقد وجد العراقيون أنفسهم في ظل نظام تافه تماماً، باستعارة عنوان كتاب آلان دونو بـ "نظام التفاهة"، ولنا أن نطلق الوصف هذا(التفاهة، الرثاثة، الهُجانة) على أيَّ مفصل من مفاصل الحياة، ولا نقتصر به على السياسة، فالأمر تجاوز حدوده الى التعليم والثقافة والاقتصاد ... والدين أيضاً، ولم يعد أحدٌ من القائمين على شأن المفاصل تلك يخجل، أو يجد الحرج في ما يقال عنه، وما يوصف به، بل أنَّ قناعة المواطن، أيّ مواطن بالموظف في أيّ دائرة لم تعد قائمة على التوصيف القاضي بوجوب قيام الموظف على خدمة المواطن، بناء على الدور الذي يضطلع به كل منها، إنما هناك شيءٌ حلَّ محلَّ العلاقة التكاملية تلك، قوامه الريبة والشك والخداع والاستقواء والابتزاز وما الى ذلك. قد لا يصح الوصف على الجميع لكنها الصورة القائمة في الذهن العراقي اليوم.
تقول القاعدة العامة بأنَّ القاتل واللص والمرتشي ساعة يقف أمام القاضي فأنه سيواجهه بعقوبة منصوص عليها في القانون، وإنْ أدين فهو مجرم يتحمل وزر ما قام به، وإن أطلق سراحه فهو بريء يأخذ طريقه في الحياة، والقاعدة هذه تنطبق على الجميع، لكنْ، وفي مجتمع القبائل المسلحة، والمليشيات، والسياسة المنحرفة، ونظام التفاهة بعامة لن نقع على المعادلة تلك، فالقاضي خائف، وشيخ القبيلة متحكم، والحزب السياسي يتصل ويهدد، والمليشيا تقتحم السجن وتطلق النار على القاضي، وتطلق سراح المجرم وهكذا، يكون الطالب الراسب ناجحاً بناء على تهديد الاستاذ، والطبيب خائفاً لا يجري عملية جراحية لمريضه إلا بعد أن يوقع ذووه على ورقة براءته إن أخفقت العملية، وترى الرعب والقلق والخوف يسري في ميامن الحياة ومياسرها.
تحاول أجهزة الاستخبارات في البصرة التي ألقت القبض على عصابة الموت نقل المدانين الى بغداد، تجنباً لضغوط القوى السياسية الفاعلة، ذات الصلة بالعصابة، ولا أحد يعلم ما إذا سيكونوا بمنجى ومأمن من الضغوط هناك. رئيس العصابة الهارب، أو الذي تم تهريبه، صاحب شركة كبيرة تعمل في الميناء، وثاني أفرادها عضو فيها يعمل مفوضاً في الشرطة، وآخر طالب في كلية القانون، وو.. ترى ما الذي يحدث في البلاد هذه؟ وإلى مَن ستؤول شؤونها؟ نعتقد بانَّ توصيف آلان دونو" نظام التفاهة" أقل قدراً على استيعاب نظام الدولة العراقية اليوم.