لطفية الدليمي
كثيرةٌ هي المرّات التي سمعنا فيها عبارة ( العلمُ نورٌ ) وهي تجري في أوساطنا مجرى الأمثولات الفلكلورية، شأنها في هذا شأن الكثير من الأمثولات التي تداولناها ولم نرَ لها تطبيقات مشخّصة في واقعنا . الأمثلة في هذا كثيرة : الصدق والأمانة مثالان.
خذ أي كتاب من كتب التراثيات مثلاً وسيخيّلُ لك أننا صُنّاع المنظومات الفلسفية والأخلاقية الكبرى في العالم، ثم تمعّن في واقع الحال؛ حينئذ سينتابك قنوط مريع لحجم الفارق بين الفلكلوريات التراثية وبين واقعنا البائس. تفكّرتُ كثيراً في هذا منذ عقود بعيدة ، وربما كان التحسّبُ من اتجاهات التأويل المتعجل هو مايصدّني عن تناول هذه الاشكالية .
العلمُ عندنا ليس سوى بناءٍ فوقي Super-Structure قوامه كلمات مسطورة في كتب – مدرسية على الأغلب – يقرأها الطلاب لينجحوا ويفوزوا بمراتب مهنية تدرُّ دخلاً عالياً ، مهنٌ راقية كما يسمّونها . حدّثتني صديقة أنّ حواراً جمعها مع مجموعة صديقات وأصدقاء، وضمّ المجلس صيدلانياً جمع ثروة كبيرة لامتلاكه مذخراً للأدوية . تطرق الحديث إلى تفاصيل مستجدّة عن فايروس كورونا ، وكان من الطبيعي أن يستأنسوا برأي الصيدلاني -باعتباره الأقرب تخصصاً ودراسة - في جزئية علمية دقيقة تخصّ الفايروس ، قال الصيدلاني ساخراً : أنا لم أقرأ كتاباً أو منشوراً علمياً منذ تخرجي من الجامعة ، مالي وللكتب والقراءة ودوخة الرأس التي تعيق نمو عملي وثروتي !.
العلمُ في مجتمعنا ليس سوى سُلّمٍ يؤدي لوظيفة وليس ثقافة جمعية ترتقي بواقعنا ضمن خطوات عقلانية مدروسة . وقد نتساءل : لماذا وصلنا إلى هذه الحال ؟ قدّم - وسيقدّمُ - منظّرو التنمية وصُنّاع السياسات الاقتصادية وخبراء الامم المتحدة الكثير من النماذج والتبريرات عن معيقات التنمية في منطقتنا العربية ؛ لكنّ التسويغ الأكثر معقولية وقرباً من الواقع ، هو أنّ العلم لايصنع الثروة عندنا، فهو يبقى مجرد عبارات عائمة فوقية لادور لها في تشكيل حياة جديدة، لامكان لها في ابتكار موارد غير مطروقة لخلق الثروة، فالأمر يتطلب توطين خبرات، وتثوير نظم تعليم، وإشاعة رؤية جديدة للأنساق المجتمعية، وأفكار جديدة لإعادة توزيع الثروة طبقاً للكفاءات والمجهودات الحقيقية .
تشيرُ أدبيات التنمية التي تصف واقع المجتمعات المتقدّمة أنّ ميزانيات كبيرة تخصّصُ للبحث العلمي الأساسي الذي لايُنتظرُ منه فائدة قريبة الأجل بل يتطلب الانتظار والصبر حتى تنضج عوائده . هذا هو ماحصل على سبيل المثال مع معظم التقنيات الثورية التي أعادت تشكيل حياتنا في السنوات القليلة الماضية. بدأت بواكير البحث في شبكة المعلومات العالمية ( الانترنت ) قبل مالايقلُ عن خمسة عقود، وتطلب الامر جهود مئات من الباحثين في الجبهات العلمية المتقدمة حتى بلغنا في أيامنا هذه الطفرة النوعية في الانترنت. هل كنّا سنبلغ هذه المرحلة لو كان المسؤولون عن السياسات العلمية يفكرون في منافع سريعة الاجل ؟ بالتأكيد لا .
العلم رؤية ومجاهدة وأخلاقيات واصطبار على قطف النتائج وتطلّعٌ شغوف نحو المستقبل ، وهو المنتِج الاعظم للثروة في وقتنا الحاضر ؛ أما المجتمع الذي يرى في العلم بضع معادلات ومحفوظات تتيح لأفراده مهنةً بدلاً من ثقافة علمية حقيقية تؤثر في صناعة واقع جديد فلن يكون قادر اً على شيء سوى إنتاج أشخاص لايرون أبعد من بطونهم ومحفظة نقودهم ولايعنون بالعلم والعالم ومتغيراته .
المجتمع الذي يجعل العلم نسقاً فلكلورياً سينتهي به الامر مجتمعاً طفيلياً يعتاشُ على مخلفات الآخرين ، وليس بعيداً اليوم الذي ستعجز فيه مجتمعات كهذه على التعامل حتى مع مخلّفات الأمم الأخرى !