يحيى ا دريس المقام العراقي عنده خط احمر للمتطفلين عليه او الذين يتخذون منه مجالا للرزق والتكسب والتقرب من جاه السلطة.. وهو أي المقام تحفة فنية لا تأتيها الا الرموز الكبيرة مثل رشيد القندرجي ومحمد القبانجي وحسن خيوكة وعباس كمبير وطاهر توفيق وعلي مردان واسماعيل الفحام..
والحنفي رحمه الله.. يراقب القراء من خلال ضبطهم النغم لا النص .. وكان يفضل المطرب الذي يحترم القطع والاوصال ويرفض بقسوة من يحاول الاختصار او التملص السريع من بنية الترتيب النغمي للمقام الواحد كما فعل ناظم الغزالي والاجيال المتأثرة به.. او الاجيال التي تأثرت بيوسف عمر وامتطت حناجرها المقام للارتزاق.. وكان الحنفي ايضا لا يكترث بغناء البستة ويعدها من طبيعة غناء النسوة لما فيها من تمتع وتغنج وتخنث ، همه الاول والاخير اداء المقام كما تسلمناه من القدامى..وفي بحر الثلاثينيات اصدر جريدة (الفتح) وجعلها منبراً نقدياً لاذعاً ولادغاً لاجتهادات مطربي المقام العراقي وخاصة شيخ المقامات العراقية محمد القبانجي الذي اجتهد في ابتكار مقامات جديدة ولحن عشرات البستات وغنى المقام واقفا واهتم بالنص والنغم على حد سواء لنقل المقام من النخبة القليلة الى عموم الشعب العراقي. كان الحنفي على نقيض من هذا التصرف وكتب نقودا مؤذية عن القبانجي ودعاه الى العودة الى التقليدية المقامية الا ان القبانجي مضى في طريقه بشجاعة الفارس الذي رسم طريقه وهدفه فاستسلم الحنفي على مضض لمنهج القبانجي بعد ان اجتاحت الساحة المقامية اصوات هشة في سنوات الخمسينيات والستينيات والسعبينيات. لقد كان للحنفي مواقف مماثلة مع قراء الاداءات الدينية الذين لا يجيدون معرفة اسرار الانغام المقامية.. ولم ينج احد من لسانه ونقداته المرة.. خاصة الشباب منهم.. وحاولت عدة مرات ان اشجعه لتمييز مطرب مقام او مؤدي قرآن كريم من الشباب فامتنع قائلا: “المقام تراث الوطن وقيمته لا تقل شأنا عن قيمة اي صرح تاريخي وتراثي.. والصبيان لا يفهمون هذه القيمة وهم تجار فاشلون”. كان صارما في ارائه وجريئا في قولها.. لذلك تحاشى الكثيرون من اهل المقام الاقتراب منه او الاستئناس برأيه.. وهو موسوعة مقامية تحمل الكثير من العلم والثقافة والنقد.. مرة سألت القبانجي عن رأيه بجلال الحنفي فقال”قلعة العلم.. وبصيرة مقامية لا يطولها احد“.كان هذا التعبير الافصح لمكانة الحنفي في شؤون المقام العراقي. في عام 1988 تأسس بيت المقام العراقي الذي لم شمل اهل المقام العراقي تحت خيمة رسمية وأول مرة في تاريخ العراق المعاصر. وشكلت لجنة استشارية لنشاط البيت ضمت نخبة من المثقفين في حقول المقام العراقي هم”الشيخ جلال الحنفي، د.عبدالله المشهداني، عبدالوهاب الشيخلي، حسين قدوري، روحي خماش، عباس جميل، غانم حداد، سالم حسين، د.نوري حمودي القيسي“.واشرفت هذه الهيئة على المنابر الثقافية للمقام العراقي وعلى المهرجانات والمسابقات المقامية في قاعة الرباط وقاعة الشعب والمتحف البغدادي وحققت انجازات رائعة.. لكن آراء جلال الحنفي في المقام العراقي ظلت على عهدها ورفضها لاي مجتهد وكان يدعو الى تسييد النغم المقامي في الحناجر الشبابية وينتقد اسلوب عرض المقامات الفرعية في التلفزيون والاذاعة. وطالبنا بتقديم المقامات الطويلة والمعقدة مثل ”الابراهيمي، المنصوري، الرست، الحجاز ديوان“.في اعمدته الصحفية العديدة نال المقام العراقي نصيبا وافرا منها على شكل مسامير او نقدات تلطيفية فالمقام عنده هاجس اصيل يقلقه ليلا ونهارا ويحضر مؤتمراته ويدلو بدلوه.. رحم الله الشيخ جلال الحنفي الرمز البغدادي والمقامي فضلا عن ريادته في الشؤون الدينية كعالم جليل.. ومثقف فاضل.. ومؤلفاته الكثيرة ومقالاته التي ملأت الصحف منذ الثلاثينيات ولغاية السنوات المتأخرة وشغلت الناس.. لجرأتها وبراعة كاتبها.
الشيخ جلال الحنفي والمقام العراقي
نشر في: 19 مايو, 2010: 04:15 م