ثائر صالح
المكان: أمستردام، قاعة كونسرتخباو الشهيرة. الزمان: 1997. المشتركون: فرقة كونسرتخباو الملكية الهولندية، قائد الأوركسترا:
ريكاردو شايي. العازف المنفرد على البيانو: ماريا جواو بيريش. الموسيقى: كونشرتو بيانو موتسارت رقم ... أي كونشرتو منها؟
بدأت الأوركسترا عزف الكونشرتو، فأيقنت بيريش أنها تهيأت لعزف كونشرتو أُخرى. عندها، وخلال ستين ثانية، هي فترة المقدمة الموسيقية التي مهدت الأوركسترا بها الطريق لدخول عازف البيانو بالنغمات الأولى، نرى على تقاسيم وجه بيريش المفاجأة ثم الغضب، فالاكتئاب وأخيراً التسليم بالأمر الواقع، أحس المايسترو بالورطة، لكنه شجع عازفة البيانو: قدمنا هذا العمل سوية الموسم الماضي، ستتذكرين كل نغماته ولن تكون هناك مشكلة، أنت قادرة على ذلك. فتجيبه: سأحاول.
بدأت بيريش بالعزف المبدع من الذاكرة دون أن تنسى نغمة واحدة، لتكمل تقديم كونشرتو موتسارت في واحدة من اللحظات النادرة في تاريخ الموسيقى. لم تحصل الضجة الكبيرة بعد الحفلة، بل في سنة 2013 عندما نشر تسجيل تلك اللحظات الدرامية وحيرة العازفة الشهيرة.
الحفلة ذاتها لم تكن ذات بال، إذ كانت حفلة في وقت الظهر، فالجمهور والفرقة وبالذات قائد الأوركسترا شايي كانوا جميعاً يرتدون ملابس عادية وليس ملابس الحفلات المسائية المعتادة، حتى أن شايي وضع منشفة حول رقبته، ربما بسبب حرارة ذلك اليوم، أما بيريش فارتدت ملابس مريحة كعادتها، فهي لا ترتدي البدلات الأنيقة الغالية حتى في حفلاتها المهمة، بل تكتفي بملابس قطنية مريحة. وفي هذا شيء من الفلسفة البوذية التي تأثرت بها، والتي تقول عنها إنها ساعدتها في تعلم الطريقة الصحيحة للتنفس، والتنفس الصحيح أحد المواضيع المهمة التي يدرسها الموسيقيون في معاهد الموسيقى.
ولدت بيريش في لشبونة عاصمة البرتغال سنة 1944 تعلمت البيانو في طفولتها وقدمت كونشرتات موتسارت في أول حفل لها وهي في السابعة، درست العلوم الموسيقية في ميونيخ وهانوفر بألمانيا، وحازت على شهرة عالمية كبيرة وهي في السادسة والعشرين عند فوزها بالجائزة الأولى في المسابقة العالمية في بروكسل سنة 1970 والتي أقيمت ضمن الاحتفال با لذكرى اليوبيلية 200 عام على ولادة بيتهوفن، فعزفت مع أشهر الفرق وأشهر الموسيقيين. . أصدرت العديد من التسجيلات الناجحة التي حازت تثمين النقاد، منها تسجيل كل سوناتات موتسارت (1991)، وكذلك تسجيلات أعمال بيتهوفن وشوبرت وعلى الخصوص نوكتورنات شوبان، فهي تعد بين أمهر مترجمي أعمال موتسارت وشوبان.
ما يجذبنا إلى شخصية هذه الفنانة البرتغالية العظيمة هو تواضعها وبساطتها ومثابرتها، ونشاطها في عكس تأثيرات الفنون على المجتمع ونظام التعليم وبحثها عن أنماط جديدة للتفكير وتشجيع تبادلها.
ألّف موتسارت هذا الكونشرتو في ره الصغير (كوخل 466) سنة 1785 وهو في قمة مجده، قدمها في فيينا يوم 11 شباط وهو يقود الفرقة بينما كان يعزف البيانو فحازت على نجاح كبير على الفور، وتعتبر اليوم أهم أعماله للبيانو والأوركسترا. استعمل نفس السلم في كتابة الأجزاء الهامة من أوبراه دون جيوفاني، وقداسه الذي توفي ولم يكمله.