لطفية الدليمي
قد لايكون الإنسان كائناً يتغذّى على الخيال أو توّاقاً لتغيير واقع حاله بالضرورة ؛ إذ تعيش الكثرة الغالبة من البشر وهي مكتفية بإدامة متطلّبات وجودها الحيوي والقناعة بعيش « اليوم بيومه « كما تقول الأمثولات الشعبية .
مقابل هذه الكثرة القانعة المكتفية هناك نوعٌ مختلف من البشر لايستطيع الحياة إلا وهو يحلمُ بصناعة « عالم آخر « موازٍ خاص به قد لايعدو أن يكون إشباعاً لأخيلة لاتكاد تغادر حدود عقله . « العالم الآخر « عند هؤلاء نوعٌ من مباراة ذهنية توفر بعض التحفيز اللازم لإدامة زخم الحياة التي طالها الركود وإذكاء وهج العيش الذي لايكتفي بالانصياع لاشتراطات العيش الحيوية الأولية.
كانت النسخ الأولى من اليوتوبيات (يوتوبيا «آراء أهل المدينة الفاضلة « للفيلسوف الفارابي ، ويوتوبيا السير توماس مور ، على سبيل المثال) محاكاة لبيئات ذهنية متخيّلة تسودها أخلاقيات يفتقدها العالم المادي ، وكانت في مجملها توقاً مُمِضّاً إلى نوعٍ من الرؤية الخلاصية المُحَفّزة بالكمال الأخلاقي ، ثمّ بعد قرون عدّة حلّ عصر الآيديولوجيات الكبرى مطلع القرن العشرين ، وحينها إتخذت اليوتوبيات مساراً تبشيرياً بواحدة من السرديات الكبرى التي سادت عصر الحرب الباردة : أمان ، ضمان اجتماعي ، عدالة اجتماعية لدى المعسكر الاشتراكي الذي إنتهى إلى توتاليتارية (شمولية) قضت عليه ، يقابله إعلاء شأن الفردانية والحرية الليبرالية وسياسات السوق الحرة المحكومة بآلية «اليد الخفية « في المعسكر الرأسمالي الذي إنتهى هو الآخر إلى سياسات نيوليبرالية متوحّشة يتعاظم تغوّلها كل يوم . يشهد عصرنا هذا منذ سنوات عديدة ظواهر تؤكّد أفول عصر اليوتوبيات الآيديولوجية مقابل صعود مايمكن تسميته عصر ( اليوتوبيات التقنية) المدفوعة بعوامل الثورات العلمية والتقنية الكبرى .وقد ساهم العلم والتقنية في جعل اليوتوبيات خيالات ممكنة التحقق بدل بقائها حبيسة العقول الحالمة.
يبدو أنّ خلاصَنا البشري الموعود لاينتمي ليوتوبيا جمعية ولايبشّرُ بأيّ منها ؛ بل هو نتاج رؤية إنقاذية يجتمع عليها أفرادٌ يؤمنون بأنّ خلاص مجموعة بشرية معينة ما هو إلاّ مجموع «الخلاصات« الفردية لأعضاء هذه المجموعة التي تعمل على إنقاذ واقعها مستعينة بقدرات علمية وتقنية متاحة – بل حتى بدائية أحياناً - ذات تكاليف بسيطة ومستمدّة - قدر الإمكان - من البيئة المحلية. يؤمن هؤلاء الأشخاص بالحفاظ على خبراتنا البشرية المتوارثة وتوظيفها في مسعاهم لتحقيق التجربة الخلاصية بدل التعالي على تلك الخبرات وتجاهلها ( مثلما فعلنا مع الثورات التقنية السابقة، ولم نزل نفعل مع الثورة التقنية الحالية ) ، كما يؤمن هؤلاء أنّ الخلاص الفردي هو السبيل إلى إدامة الوجود الحيوي والقدرات العقلية والتوازن النفسي في عالمٍ أصبح يتشظّى تحت وطأة استقطاب علمي وتقني عالمي شديد الضراوة من جهة ، ومعضلات وجودية عالمية مهدّدة للنوع البشري من جهة أخرى (إحتباس حراري ، ندرة مصادر المياه ، معضلات الاستدامة البيئية ،،،،) ؛ حيث لم تعُد المنظومات السياسية والهياكل المؤسساتية العتيقة قادرة على مواجهة هذه المعضلات البنيوية بفاعلية حقيقية يمكن أن تنتج عنها مفاعيل مؤثرة في أرض الواقع .
خلاصُنا البشري الجمعي سيكون بالضرورة تحقيقاً لرؤية فردية طموحة قابلة للتحقق ، وهو ليس فسحة استجمامٍ لعقل فعّال بقدر ماهي حاجة وجودية يحفّزها تهديد خطير ومباشر للوجود البشري ؛ فالعقل الخلّاق إذ يواجه بتهديدات وجودية جدّية تستهدف بقاء البشرية ، سيكون قادراً على ابتكار معالجات مناسبة واستنباط حلول لكلّ معضلة تواجه أية تجربة إنسانية جديدة .