طالب عبد العزيز
تأسست الدولة العراقية سنة 1921 وفي الفترة هذه كانت نسبة الأمّية في العراق عالية جداً، والشعب لا شعباً بالمعنى الحقيقي، حتى أن الملك فيصل الاول قال جملته الشهيرة:
” أقول وقلبي ملآن أسى، أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت» في الفترة تلك كانت الاسر الغنية وصاحبة النفوذ المالي من اليهود والمسيحيين العراقيين بخاصة هي الاعلى تعليماً وأفضل قدرة على إعمال الوعي في الحياة.
بعد هجرة اليهود في العام 1948 اتسع نفوذ الأشقاء المسيحيين في البلاد، واستطاعوا ملء الشاغر المعرفي والمالي، الذي تركه اليهود. ذلك لأنَّ الكنيسة المسيحية كانت تحسن إدارة حياة أبنائها وتنظيم مفاصلها، فهي تفرد داخلها سجلاً للمواليد والوفيات والأحداث العامة والخاصة، وقد وجدنا بين الآباء والقاسوسة والمطارنة كتاباً وشعراء وفنانيين ووو الامر الذي انعكس إيجاباً على حياة الاسر في البيوت، فحرصوا على تعليم بناتهم وأبنائهم، واستحصال المعارف والمهن والحرف، مستثمرين الفسحة التي يسمح الدين المسيحي بها في ذلك، فوجدنا نسبة كبيرة من أبنائهم ضمن الطبقة الأولى من الأطباء والمهندسين والمحامين ورجال المال والاقتصاد، وبما أسس لنمط حياة عراقية جديدة، كانوا فيها القدوة والمثل الحسن.
لذا، وبشكل فاعل، أسهم أبناء الطائفة المسيحية في تشكيل وبناء المجتمع والدولة العراقيين، وبل وكانوا الطرف الأهم في قطاعات التجارة والمال والاقتصاد والسوق والطب والتعليم والهندسة وكذلك في الموسيقى والفنون والرياضة، ففي البصرة على سبيل المثال يذكر الباحث كريم علاوي بان فريق شركة نفط البصرة كان قد فاز بالدوري لسنة 1949 وأن أكثر من نصف لاعبيه كانوا من المسيحيين، ولم يعرف البصريون التصوير قبل المسيحيين من أبناء طائفة الأرمن، وأول صيدلية كانت لطبيب مسيحي، وكان صانع الأحذية عبد الاحد واحداً من أمهر الصناع، ولو أحصينا عدد مدرسي اللغة الانجليزية لكان غالبيتهم من المسيحيين، ومن منا لا يتذكر الاستاذ لورنس.
لا يمكن الحديث عن دولة، أي دولة، دون وجود الطبقات الحية والفاعلة، وستكون الغلبة في أي مقاربة بين النخب الاولى التي أسست للدولة العراقية لصالح الطائفتين اليهودية والمسيحية، ولا نعني برجال السياسة فهم الطبقة الأسوأ في كل الأزمنة، إنما نتحدث عن قطاعات المال والاقتصاد والثقافة، والتي تشكلت في معظمها من أبناء الطائفتين، ففي أحصائية لعدد أعضاء غرفة تجارة البصرة أو بغداد نجد هؤلاء أنهم كانوا أكثر أعضائها قدرة وإسهاماً في بناء الاقتصاد العراقي، ومثل غرفة التجارة سنجد الاسماء المضيئة في قطاع الصيدلة والطب والثقافة والفنون، ولن يكون للسُفرة العراقية طعم بدون فنون الطبخ المسيحي.
كان ناقوس كنيسة المسيحيين الكلدان أرقَّ ما نسمعه نحن طلاب متوسطة النضال في نظران بالبصرة القديمة، صوت كنسي عالق بين السماء والأرض، يوحي بالطمأنينة والعودة ببطن جائع للبيت، وكانت مسوح الرهبان الخارجين من الكنيسة في الآحاد أجمل ما نشاهده، وكان باص مدرسة الراهبات والتقدمة ومعاينة الطالبات الصغيرات بأشرطة شعورهن الملونة يوحي لنا بان السلام ممكن، وأنَّ العيش الآمن أقل كلفة من العيش المضطرب.