علي حسين
بينما أعداد المصابين بفايروس كورونا ما تزال في تصاعد في أنحاء كثيرة من العالم، مُغيّرة شكل الحياة بصورة لم يألفها الإنسان من قبل ،
نجد في الوقت نفسه تأثير وتداعيات هذه الوباء في الأوساط الفكرية والثقافية ، حيث نُشرت كتابات لمفكرين مثل الفرنسي آلان تورين عالم الاجتماع الشهير، والفيلسوف الإيطالي بيتر سينغر، إلى الروائية الهندية أرونداتي روي، إلا أن الفيلسوف المثير للجدل سلافوي جيجيك أراد أن تكون مساهمته أكبر فأصدر أول كتاب عن فايروس كورونا بعنوان “ الوباء.. كوفيد 19 يهز العالم
“ ، بعده كانت مساهمة الفيلسوف الفرنسي إدغار موران من خلال كتاب بعنوان “لنغيّر الطريق.. دروس فايروس كورونا “ ، وقبل أسابيع أصدرت الروائية الانكليزية – الجامايكية الأصل – زادي سميث كتاباً بعنوان “ إيحاءات “ ، يضم عدداً من المقالات كتبتها سميث أثناء تواجدها في نيويورك ، حيث اغلقت المطارات وكان لزاماً عليها أن تلتزم بالحظر المنزلي ، قالت إن هذا الكتاب كان “طريقتها في فعل شيء ما” . تبدأ سميث كتابها بالقول لو أن أحداً قال لها في العام الماضي إن الصيف الحالي سيجبر كل إنسان أن يضع كمامة على وجهه ، لوصفت صاحب القول بالمجنون ، ثم تتحدث سميث عن العادي وغير العادي في زمن كورونا حيث تكتب : “ إذا لم تحقق كورونا أي نتائج، فإنها، على الأقل، سلطت الضوء على نقاط ضعفنا الشخصية، والمالية، والاجتماعية، والتعليمية، وغيرها” ، وتضيف: “ كان العادي هو إدمان العمل الجاد، والمرهق ثم، في الأمسيات وعطلات نهاية الأسبوع والإجازات، حيث الانتقام من إدمان الإرهاق بإدمان الترفيه والمرح... لكن، مع كورونا، صار العادي غير عادي. لم يعد هناك عمل، حتى غير مرهق. ولم يعد هناك ترفيه، حتى المشي في حديقة عامة أصبح ينذر بالخطر “ . لكن سميث لا تذكر المساوئ فقط ، وإنما تتحدث أيضاً عن الإيجابيات ، فهي ترى أن فايروس كورونا جعل الناس يفكرون في ثلاث قضايا أساسية:
أولاً.. الإنسانية : تتمثل هذه في التقارب بين الناس. ليس تقارباً جسمانياً، ولكن فكرياً: “ أنت تضع كمامة على وجهك لتقيني، وأنا أضع كمامة على وجهي لأقيك “ .
ثانياً.. المسؤولية: تتمثل في إطاعة قوانين الحكومة. والاقتناع بأن الحكومة، مهما كانت آراء الناس فيها، ورغم كثرة سلبياتها، “ أمرتك أن تلتزم بالحظر ، فالتزمت غصباً عنك”.
ثالثاً.. الأخلاق : تتمثل في الصواب والخطأ. بالإضافة إلى الجوانب الصحية، والقانونية، والسياسية، صار هناك خيار أخلاقي واضح: هل تتعاون مع غيرك لمواجهة الكارثة الكبرى التي تهدّد كل البشرية؟ أو تتمرد، وتتحالف مع الكارثة الكبرى، ضد كل البشرية؟
وتتساءل زادي سميث : ما هي كورونا هذه التي تجعلنا ننهي التفاخر ، وتقضي على نظرتنا الدونية للآخر ، وصرنا نريد أن يتضامن الجميع ؟ . نريد من كل واحد منهم أن يضع كمامة على وجهه، لأنه عندما يحمي نفسه، هو، أيضاً، يحمينا .
عندما بدأ الإغلاق في مدينة نيويورك ، قالت سميث إنها افترضت ، كما يفعل العديد من الكتّاب ، أنها ستكون أكثر إنتاجية. لكنها وجدت صعوبة في التركيز مثل الآخرين :” أدركت عدم جدواي. أعني ، أعتقد أن الروائيين دائماً ما يشعرون بعدم الجدوى إلى حد ما ، لكنني أعتقد أن الأمر يتفاقم ، لا سيما في الأوقات الحرجة “ لكنها تجد نفسها عالقة مع الشيء الوحيد الذي يمكنها فعله ، وهو الكتابة :” لأول مرة في حياتي ، أدركت أن الكتابة يمكنها أن تقدم صورة لما يجري حولنا “ .
عندما طالت أيام الحظر وإغلاق في نيويورك ، أخذت زادي سميث تحن الى بيتها في لندن ، والمكتب الصغير المنزوي في ركن من أركان البيت والذي تضع عليه صورة الكاتبة البريطانية الشهيرة “ جين أوستن “ ، عندما جلست ذات يوم لتجرب حظها في كتابة روايتها الأولى “ أسنان بيضاء “ ، ظنت أمها وأقاربها إنها لن تكتب شيئاً مهماً . لكن زادي سميث فعلتها ، وبعد ستة أشهر من الجلوس ثماني ساعات على كرسي خشبي عتيق ومكتب استعارته من مطبخ والدتها ربطت رزمة الورق الضخمة التي انتهت من كتابتها على مؤخرة دراجتها الهوائية وقررت الذهاب بها الى إحدى دور النشر ، وعندما سألها الناشر عن موضوع الرواية ، أجابت إنها مثل حياتنا ، كل واحد يريدها أن تكون مختلفة ومتميزة .
تبدأ سميث كتابها “ إيحاءات “ بالكلمات التي قالها الرئيس الاميركي دونالد ترامب : “أتمنى أن نستعيد حياتنا القديمة ، كان لدينا أعظم اقتصاد شهدناه على الإطلاق ، ولم يكن لدينا الموت “. وتقول سميث إن ترامب لم يكن مخطئاً ، فالطريقة الاميركية هي التفكير في الموت على أنه شيء يمكن هزيمته عبر برنامج اجتماعي ، وتلاحظ سميث إن “الموت الذي انتشر في أميركا ، كان دائما هناك ، وإن كان محجوباً ومرفوضاً ، ولكن الآن وبفضل كورونا تمكن الجميع من رؤيته “ . . ونجد سميث تتعاطف مع الجيل الأميركي الجديد الذي تصفه بانه ولد في قرن محاصر ، ويعيش الآن أزمات الحاضر بعيون قلقة على مستقبل هش للغاية : “ كان الوعد اللامتناهي للشباب الأميركي ، الوعد الذي صاغته الأفلام والإعلانات والمنشورات الجامعية - كذبة فارغة لفترة طويلة لدرجة أنني لاحظت طلابي يمزحون بشأنها بدعابة سوداء أكثر ملاءمة لكبار السن ، لقدامى المحاربين « يحكمون على الأشياء وكأنهم عاشوا تجارب عقود “ .
وترفض سميث المقولة التي يرددها بعض المفكرين من أن العالم القديم قد انتهى وتؤكد أن “العام لم ينته بعد ،” لذا فهي لا تحاول كتابة “حساب شامل” لعام 2020. وإنما تحاول أن تطرح بعض الأفكار والمشاعر التي أثارتها الأحداث .
تقول سميث إنها كانت “في حالة من الرهبة” وهي تراقب احتجاجات العدالة العرقية التي أشعلت شرارة مقتل جورج فلويد على يد شرطة مينيابوليس ، على الرغم من أنها تكتب عن العرق والعنصرية ، إلا أن سميث تقول إنها لا تعتبر نفسها ناشطة :” أنا كاتبة ، دوري الوحيد كما أرى ، هو كيف يمكنني كيف أساعد الناس على القيام بما يتعين عليهم القيام به؟“.
في مقالاتها ، تقارن سميث بين جائحة كورونا والعنصرية ، حيث كتبت أن العنصرية هي فايروس يصيب الكثير من الأميركيين البيض :” قد يكون بعضه مصحوباً بأعراض ، أو مليء بالكراهية والعنصرية ، بينما قد يكون البعض الآخر بدون أعراض ولكن لا يزال يتخلص من الفايروس. “ .وتضيف سميث أنها كانت تعتقد أنه في يوم من الأيام سيكون هناك لقاح ضد فايروس العنصرية ، بعد أن : “ يصبح عدد كافٍ من الناس على دراية بالعنصرية في حياتهم اليومية ، عندها سنطور نوعاً من مناعة القطيع “ ..لكنها تقر أن العنصرية تتغلب في أحيان كثيرة على الطلبعة البشرية ، ولا يكفي التخلص من التماثيل ورموز العنصرية لدحر هذا الفايروس .
تقول زادي سميث إن الأسئلة التي تطرحها في كتابها “ ايحاءات “ جاءت جميعها من القراءات التي رافقتها طوال حياتها ، وهي تتذكر في محنة كورونا كتاب “ التأملات “ لماركوس أوريليوس حيث كان قد طرح الاسئلة حول معاناة الإنسان ، وهي تقول إنها حاولت من خلال هذا الكتاب وتقصد “ التأملات “ أن تتأمل الكثير من المواقف المعاصرة المختلفة .
يكتب ماركوس:” لا تشعر بالاستياء، الهَزيمَةِ أو القنوط؛ لأن أيامك لم تعد مَليئةً بالأفعالِ الحكِيمةِ وَالمناسبة، لكن اسْترجِع قوتك بعد السقوط، احتفِ بتصَرفِك كإنسان ، بالرغم من عدمِ كمالِك ، واحتضن بِكليّة السعيَ الذي شرعْت فيه. “ .
تخبرنا زادي سميث أنها أرادت من خلال كتابها “إيحاءات” أن تمارس نوعاً من أشكال المقاومة :” ضد تلك السرعة المجنونة التي يسير بها العالم ، ، مقاومة ضد فكرة يجب أن تُعطى لنا كل يوم من قبل التكتلات الرأسمالية الضخمة.. فقط ، أردت أن أعطي القراء الشيء الذي أحاول محاربته من أجل نفسي ، وهو مساحة للتفكير في أفكارنا جميعاً ، مهما كانت«.
تبحث سميث في” إيحاءات عن “ الالتزام الذي تشعر به تجاه الآخرين وخصوصاً الفقراء والضعفاء ، وعندما سُئلت عن حالتها في ظل الإغلاق ، قالت إنها” محظوظة مقارنة بالكثير من الناس الذين يعيشون ظروفاً غير مريحة وغير إنسانية ، ، وهي تنهي كتابها بهذه الجملة :” إن الاعتراف بواقع مشاكل المرء ، بأي شكل من الأشكال ، قد يسهل في الواقع ، معالجة مشاكل الآخرين “ .