د. نادية هناوي
اليوتوبيا والدستوبيا والهيتروتوبيا والايزوتوبيا مفردات مخصوصة بالمكان بوصفه مدينة، ولكل مفردة خصوصيتها التي فيها للإنسان الحق في أن يبحث عن سعادة أو سلام أو تمرد أو ملاذ،
وهوكما يقول ديفيد هارفي ـ دائم التساؤل عن نوع هذه المدينة التي يريدها وأي نوع من العلاقات الاجتماعية يسعى إليها داخلها وأي أسلوب حياة يتمناه وما نوع الصلة التي يقيمها مع الطبيعة.
ولقد كانت أول المدن يوتوبيا صنعها أفلاطون في كتابه الجمهورية على شكل مدينة مثالية هي بمثابة اللامكان، وتأثرا به بنى أبو نصر الفارابي مدينته الفاضلة محددا مضاداتها وآراء أهلها. وبعد انتهاء العصور الوسطى تغير معنى المدينة اليوتوبيا إلى أن تكون هي المكان المفكر فيه والمخطط له حلما وحقيقة فكانت مدينة الانكليزي توماس مور جزيرة بعيدة هي نتاج الأماني والأحلام تحمل اسم ( يوتوبيا) في كتابه الذي صدر عام 1516 ثم تحولت المدينة اليوتوبيا في زماننا المعاصر إلى أن تكون هي النضال السياسي من أجل متخيل كوسموبوليتي للمجتمعات العمالية غير قابل للتحقق بسبب أنظمته المنعزلة والمستقلة اشتراكياً ورأسمالياً.
وباستهلاك اليوتوبيا لطاقة العالم على التطلع لغد تعيش فيه البشرية بلا استبداد أو تطرف أو استغلال تكون الدستوبيا هي المدينة في كارثية بؤسها وشقائها وتمردها ونفورها، متشظية إلى سطح وقاع. فأما السطح فطارد ونابذ ومغلق وضيق ونافر ومستغل وغير فاضل ولا متسامح والفرد الذي لا ينتمي إليه منبوذ ومقموع وهامش وفائض. وأما القاع فجاذب بجحيمه ومتهتك بطيشه وضاغط بجنونه وهو احتوائي بشذوذه وملاذ لمن يهمشه السطح ومرتع لمن تطرده قوانينه فيكابد الفرد المأساة تشاركاً مع الجميع الذين يصيرون واحداً في لا انتمائيتهم للسطح متحملين وزر التشظي وسعداء ببؤس الواقع التحتي الدوني والمهين.
بيد أن الإنسان في الدستوبيا قد لا يجد في خضم الكارثة مكاناً يشعره بأن المأساة جماعية في بؤسها وتشرذمها سطحاً وقاعاً، فتكون أزمته النفسية ذاتية في آلامها وانفرادية في سوداويتها وعندئذ لا مجال للتحرر الوجودي سوى بالهوس والانتحار والجنون والحمق والطيش والهلوسة والانحراف باتجاه مدينة هيتروتوبيا هي فضاء رحب وتربة خصبة يمارس فيها الإنسان بلا إرادة ولا وعي انحرافاته الفكرية مغتراً بلا أي رادع أو رقيب باختلالاته السلوكية ضمن زمر وجماعات وأسر وأقليات وطوائف تشاركه الانحراف والعدوان والكره والإقصاء والتفرد والانعزال والرفض والتعصب.
ولا مكان في المدينة/ الهيتروتوبيا للفضيلة أو المحبة أو الولاء أو التسامح لكن الشيء الوحيد الذي يهدد الهيتروتوبيا هي الايزوتوبيا كمدينة من نظام قائم على فكرة الدولة وفيه تطبق مسوغات المواطنة بنظام عالمي جديد فيه مجال للإنسان لان يحلم بمدينة هي يوتوبيا وفي الوقت نفسه يكون احتمال سقوطه في براثن الدستوبيا وارداً كما أن هناك مجالاً ممكنا للنبذ في مدينة هي هيتروتوبيا.
وإذا كان هذا التشكل الواقعي للمدن هو تشكل افتراضي ليوتوبيا مؤجلة في واقع اجتماعي مصطنع أو اصطناعي وتصور تجريدي لبنية إيديولوجية ما بعد يوتوبية فيها الواقع سطوح ايزوتوبية متطورة عمرانيا وقيعان هيتروتوبية متهرئة وعدوانية؛ فإن صنع المدن سردياً داخل الأعمال القصصية أو الروائية يظل بمثابة قدر تاريخي يفرض على الكاتب اختيار واحدة من المدن الأربع أعلاه وتوجيه المخيلة لرسم أبعادها المكانية سواء بشكل متوقع ومنطقي أو بشكل مفنتز وغرائبي وذلك تبعا لطبيعة المنهج أو المسار الذي يتبعه الكاتب في التفكير بالمدينة والتخطيط لها.
فإذا اختار مساراً تاريخياً أو أسطورياً فإن قدر المدينة التاريخي سيجعلها يوتوبيا جاذبة أو دستوبيا نابذة. وأما إذا اختار الكاتب مساراً فنتازياً؛ فإن قدر المدينة التاريخي سيظل افتراضياً في رموزه كعلامات ومجازات بلا استحالة في الانجذاب لايزوتوبيا أو الانتباذ في هيتروتوبيا.
وأما إذا اختار الكاتب مساراً واقعياً؛ فإن قدر المدينة التاريخي سيكون مناظر الواقع مناظرةً ينكمش معها الخيال في شكل دستوبيا هي زنزانة فيها المكان مألوف تبرماً ومعتاد ضيقاً ومتوقع صراعاً.
وهذان الاحتمالان الأخيران في اختيار المسارين الفنتازي والواقعي هما اللذان اعتمدهما الروائي الراحل حميد الربيعي في روايته( جمرات يارا) الصادرة مطلع هذا العام متخذاً من بغداد مرتكزاً مكانياً يشظيه تضارب المسارين وتقاطعهما في القدرية التاريخية لهذه المدينة التي استحالت أن تكون في سطحها وقاعها يوتوبيا أو دستوبيا أو هيتروتوبيا أو ايزوتوبيا أو هي هذه جميعها.
وإذا كان الروائي قد اتخذ من بغداد مرتكزاً مكانياً في رواية سابقة له هي( أحمر حانة) 2018 وفيها اختار مساراً فنتازياً صنع فيه مدينة غرائبية وبطاقة ترميز عالية ومكثفة؛ فإنه في هذه الرواية( جمرات يارا) اختار أولاً مساراً فنتازياً، فيه الأحداث تجري بصدقية ولا مجال لأن نسأل عما هو مجازي أو حقيقي فيها وفيها البطل ريان شاب هاجر أبان الاحتلال الأميركي لبغداد بطريقة عجائبية مشحوناً في أربعة حقائب إلى باريس بناء على توصية حصل عليها من انجلينا جولي وقد عمل كونديرا المونتير على منتجة أجزائه الأربعة في مدينة لينخن شتاين داخل الحانة الايرلندية ولملمها فصار ريان الشاب اللاجئ في فرنسا الذي عاش يومه وهو يتواصل مع أمه في بغداد عبر طائر، ما أن يصل إليه حتى يتحول إلى ورق يقرأ فيه مدونات توصياتها.
وآخر مدونة كتبت فيها( تعال كبيرة وواضحة وحروفها نافرة إلى الأعلى) الرواية، ص22 وأن يجلب معه آلة طرب كانت لوالده ليدفنها معه في بغداد فعاد عابرا الصحراء الكبرى باحثاً في تمبكتو عن الالة، مقابلاً في رحلة العودة الشيخ ابن عربي وليون الوزاني ورجل الثلج الأبيض البهلوان الذي هبط من السماء ليصل أخيراً إلى بوابة الجوازات في بغداد حيث حانة الأقدار (سيدوري) ..هنا ينقطع مسار الفنتازيا ليبدأ مسار الواقعية التي فيها تنعطف الرواية لتكون اجتماعية وفيها بغداد ليست يوتوبيا بل دستوبيا نابذة وضاغطة ومزرية وبائسة ومتشظية بحيوات تعيش في أدنى شروط التعايش القيمي والحياتي.
ويتغير مبتغى البطل من العمل بوصية أمه في إعادة آلة الطرب إلى قبر والده الى هدف اخلاقي فيه يبحث عن أصل عائلته فيجد أن السر مودع لدى هند ووالدها الاسطى طه. وحين يكتشف أنه بلا وطن ولا أصل كابن لكاولي مهاجر وأم أرمينية هي يارا الراقصة تكون مأساته قد وصلت إلى ذروتها.
فيغير اسمه من ريان مزهر الشادي إلى غضبان الحسن ثم جاكوبيان وتتحول بغداد في نظر البطل من دستوبيا قاع مظلم إلى هيتروتوبيا جنون وشذوذ ومكابدات هي عبارة عن انفلات وانشداد ولذة واسى ولا يبقى ممكنا أمامه الاستدارة والعودة الى ايزوتوبيا باريس بل الممكن هو البحث عن قبر له ولامه يطمر فيه أصله المشؤوم ويتخلص من تشرذم هويته وينهي معاناته في مدينة لا ينتمي إليها ولا تنتمي إليه.
ولكن هل احتملت الرواية أن يجمع كاتبها فيها المدينة بغداد في صورتين معتمداً مسارين متضادين: الفنتازي بمقصديته الرمزية، والواقعي بمصداقيته الاجتماعية ؟
إن السارد الذي كان ذاتيا تارة وموضوعيا تارة أخرى والذي كان مجنوناً يهلوس وهو يصنع يوتوبيا بغداد ومتعقلا فطنا وهو يصنع دستوبيتها، توجب عليه في نهاية الرواية أن يختار مسارا واحدا، فيه يجسد المصير القدري لبطله. وهذا ما اوقعه في مطب كان هو قد اوقع بطله فيه وهو مطب التشظي متنابذاً ما بين حكاية مدينة تعطيه المصداقية بثيمتها الرمزية، وحكاية مدينة تفقده تلك المصداقية بثيمتها الاجتماعية المتمثلة بموضوعة ( الهوية وتشظيها).
والنتيجة أن احتلت الثيمة الاجتماعية الصدارة وتراجعت الثيمة الرمزية التي اريد فيها لبغداد أن تكون مدينة تجتمع فيها الصور المكانية الأربع بتضاد دلالاتها ومعطياتها. فكان أن أدت الهلوسة إلى تشظي هوية البطل بالانتباذ المكاني الذي فيه شُطرت الرواية ثيماتياً الى قسمين شطراً غير مبرر قدرياً ولا منطقياً، الأمر الذي يسبب للقارئ صدمة وهو يتساءل عن مدى كفاءة السارد في اتخاذ المكان مرتكزاً فنياً، يبني عليه طبقات نصه ويقيم عماده الزماني غير فاصل بين العمق التاريخي للمكان والوعي الجغرافي بتفريعات هذا المكان الدقيقة والتفصيلية.
وغايته مساءلة التاريخ وتقويض ثوابته وهو ما نجح فيه حميد الربيعي بشكل واضح في روايته( أحمر حانة) لكن الحظ لم يحالفه في روايته (جمرات يارا) والسبب أولاً تنابذ البطل والسارد معاً تنابذا مكانياً باللانتماء والدونية فتشظيا تشظياً لا مجال فيه للارتحال أو الهرب.
وثانيا منهجية رسم المكان التي حرفته عن الفنتازيا وفكرتها الحلمية والقت به في واقعية اجتماعية بفكرتها الكابوسية حول الانتساب لاقلية تنبذها الأغلبية وهو ما عالجته روايات عراقية متعددة منها( ثعالب من عسل) لمحمد سعدون السباهي.
علما أن القسم الواقعي من رواية ( جمرات يارا) شغل ثلاثة أرباعها بينما شغل القسم الفنتازي اقل من ربعها. وجدير بالاشارة الى أن هناك تلاقياً واضحاً داخل الشطر الواقعي من الرواية مع رواية( خاتم الرمل) لفؤاد التكرلي من ناحية بنائية الحكاية الواقعية التي فيها المكان / بغداد هي المرتكز والبطل هاشم يعاني البعد عن والدته سناء التي تربطه بها علاقة حميمية وتدور حول سلوكها شبهات تماثل علاقة ريان بوالدته يارا وشبهات كونها راقصة وبائعة بسطرمة بينما لا تكون علاقة البطلين بأبيهما آل سليم ومزهر الشادي بنفس هذه الدرجة من الحميمية، هذا أولاً وثانياً بنائية البطل اللاانتمائية مع المجتمع، وثالثاً ما نجده من بعض التشابه في الأسرار التي تكتتنف البطلين/ هاشم وريان وتدفعهما إلى القيام برحلة يستقصيان فيها المقابر ومزارات الأولياء بحثاً عن قبر لوالدة كل واحد منهما.
ليكون المتحصل واقعيا في نهاية الروايتين وهو أن بغداد تجسيد للانتباذ المكاني كنظام مصطنع تفسد فيه العلاقات ويتحول العالم الى متاهة كبرى لا زمانية يترك فيها السرد فجوات مكانية تتشظى فيها الحيوات.
وليس من دليل يهدي في هذه المتاهة سوى العطر الذي هو عند التكرلي يتمثل في دكتورة سلمى وعند الربيعي يتجلى في الفتاة هند وكلتاهما سلمى وهند هما الدليل الهادي لهاشم وريان في ما يبحثان عنه وهو قبر يريد فيه البطل أن يواري فيه روحه/ والدته يقول ريان: ( امي لم تكن محور حكاية بحد ذاتها وان اختطت لها سيرة خالصة بيد انها نتجت من مرويات قديمة موغلة بالتاريخ وما زالت تتفاعل مثل جمرة تحت رماد تتوهج وتطلق شرارتها كل حين) الرواية، ص66 ويقول هاشم بطل التكرلي: ( والآن ماذا كان يستقر في أعماق مخلوقة من نوع أمي سناء بالغة الرقة واللطف والاستكانة والتعاطف والانهيار ) الرواية، ص20
ومثلما تبنى الراوي في جمرات يارا فكرة مشروع لترميم بغداد تبّنى الراوي في خاتم الرمل مشروعا مماثلا وكانت تمبكتو في ( جمرات يارا) هي نقطة النأي في الصحراء الكبرى بينما كانت حفلة البنكو في( خاتم الرمل) هي نقطة التلاشي في حديقة نادي العلوية.
إن رواية حميد الربيعي ليست اوديسة عراقية لتحولات بغداد كما كتب في أعلى غلاف الرواية الامامي وإنما هي متاهة دستوبية فيها بغداد كانت يوتوبيا للبطل الحالم ثم انتبذته فجأة كمدينة هيتروتوبية لا مجال معها للحلم أو النبذ في مدينة هي ايزوتوبيا.
وكان للرواية أن تتخلص من هذا الانتباذ المكاني هلوسة وحمى وافتراء، لو لم تسرد تفاصيلها واقعيا بثيمة التشظي الهوياتي، فلا تكون هناك ثغرات حكائية كان قد أدركها السارد نفسه ولذا راح يرمم بعض شروخها بالميتاسرد كأن يبرر الامر بالمتاهة التي تجعل حكاياته غرائبية قائلا: ( يخلقها عقلي الباطني ليسد ثغرة في حكايتي فأنا اعرف أن ثمة هوامش ومساحات فارغة بتلك الحكاية .. ما من أرضية صلبة استند عليها ) لتكون مفردة ( جمرات) في العنونة الرئيسة هي ( تشظيات) التشتت في الرؤية السردية بالتحول من الفنتازيا الى الواقعية فضلاً عن التبرير الميتاسردي الذي تكرر عبر فصول الرواية الواحد والثلاثين.