TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: الكتابة بالقدمين

كلامٌ عاديٌّ جداً: الكتابة بالقدمين

نشر في: 2 مارس, 2021: 09:19 م

 حيدر المحسن

أيام قديمة

في صباي الأول أكثرتُ من قراءة جبرا إبراهيم جبرا حتى أدمنته. كنت أبحث عن كتبه في جميع فروع الأدب التي نشر فيها, وأفتش عن ترجماته, وكنت أنظر إليه مثلما ينظر الهواة إلى نجوم الفنّ عندما يتابعون أخبارهم في الصحف والمجلات وعلى الشاشة.

حتى الفتاة التي التقيتُ بها, وصار بيننا نوع من الودّ _كنتُ في الخامسة عشرة_ طلبتُ منها قراءة رواية "صراخ في ليل طويل", وكنت أمتحن ذوقها في البلاغة, وفي الحبكة، وقد أتعبتُ الصبيّة في أمور لا تعنيها من قريب، أو من بعيد.

صحيحٌ أنني لم أكن أتتبع أدبه منذ ثمانينيات القرن الماضي, لكنه كان ينمو في خاطري, ويتفاعل ما كتبه في أمور الحياة. هنالك كتّاب يتوجب على أحدنا أن يقرأهم وهو شابّ. سُئل جبرا مرة هل لديه فكرة عن قارئ أعماله، وأجاب: يا ليتني أعلم! مع السنين تختلف ذائقة القارئ، فما كان يراه مجيداً في الصفحة ربما يحرص الآن على نسيانه، والكتب التي كانت تحتل واجهة المكتبة ربما دأبت على الهبوط في المنزلة عاماً بعد عام.

رأي مماثل

بعد الرواية التي اشترك في تأليفها مع عبد الرحمن منيف، "عالم بلا خرائط"، لم أقرأ لجبرا شيئاً, حتى كتابه "شارع الأميرات" لم يحظَ مني بالإعجاب، بسبب بطء ورتابة إيقاع السرد فيه، والبساطة والقِدَم اللافتين للنظر في الأفكار والمعاني التي تثيرها لغته، ذات البلاغة الشاحبة. عدا قصصه القصيرة التي يتكلم فيها بحمية وإخلاص عن نشأته الأولى في فلسطين, وعدا روايته التي وثّق فيها لخطواته الأولى في بلده الثاني, العراق, عدا ذلك نجد أن أدب جبرا الروائي والقصصي تغلب عليه الصنعة على الطبع.

هنالك فرق كبير بين كتابة السيرة والتأليف الروائي . مادة الأولى جاهزة, بينما الثانية من خلق الكاتب, وهنالك أمثلة عديدة يمكن الاستشهاد بها: "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم ليست أولها, و"سيرتان" لسليم بركات و"الوليمة العارية" لعلي بدر ليستا الأخيرتين. عندما يجرّب مدوّن الذكريات الخوض في يمّ التأليف القصصي نراه يجهد نفسه إلى الحدّ الذي يجعلك تخشى عليه من الغرق . الثغرات في الرواية التي يحاول تأليفها كاتب السيرة عديدة، ولا يمكن لأحد تمرّس في القراءة التغاضي عنها. منها أن الكاتب يلجأ إلى الخيال في الواقع عندما لا يسعفه الخيال في الفنّ، ومنها أن شخوص القصة يبدون كالدمى، إذا تحرّكوا فهناك من يدفعهم للحركة، وإن نطقوا يأتيك صوت الكاتب نفسه. يوصف هذا النوع من الخلق ب"الكتابة باليدين"، حيث يجلس المؤلف إلى مكتبه جامداً، معّذباً، مثل شجرة عجوز في عزّ الخريف، ويحاول العمل تحت إلحاح ضرورة تجهده وتشقيه. يحصل الخلق الفني عندما يجوس الفنان بقدميه خلال أنحاء نفسه التي يسكنها كما يسكن غابة. في كل قصة ورواية عظيمة هناك الكثير من الواقع، ومن الرغبة بالعيش فيه، هناك من الصبر ما يكون صالحا لقرون عدة، هناك المحسوس والملموس، وهناك العالم المتحرّك الحي.

روى لي أحد الأصدقاء اللبنانيين أنه كان يلتقي بجبرا كثيراً. في إحدى الأمسيات صارحه بهذا الرأي: لماذا تكون حميمياً في الكتابة عندما تتذكر أهلك وأصدقاءك, بينما نراك في التأليف القصصيّ في مزاج مختلف. زعل جبرا من هذا الكلام, وفترت العلاقة بين الاثنين بسبب ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

 علي حسين ما أن خرج الفريق عبد الوهاب الساعدي ليتحدث إلى احدى القنوات الفضائية ، حتى اطلق بعض " المحلللين " مدفعيته تجاه الرجل ، لصناعة صورة شيطانية له ، الأمر الذي دفع...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

سعد سلوم على مدار عقود، انتقلنا من توصيف إلى آخر: من "البلقنة" في سياق الصراعات البلقانية، إلى "لبننة" العراق بعد التغيير السياسي في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وصولًا إلى الحديث اليوم عن "عرقنة"...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram