حيدر المحسن
أيام قديمة
في صباي الأول أكثرتُ من قراءة جبرا إبراهيم جبرا حتى أدمنته. كنت أبحث عن كتبه في جميع فروع الأدب التي نشر فيها, وأفتش عن ترجماته, وكنت أنظر إليه مثلما ينظر الهواة إلى نجوم الفنّ عندما يتابعون أخبارهم في الصحف والمجلات وعلى الشاشة.
حتى الفتاة التي التقيتُ بها, وصار بيننا نوع من الودّ _كنتُ في الخامسة عشرة_ طلبتُ منها قراءة رواية "صراخ في ليل طويل", وكنت أمتحن ذوقها في البلاغة, وفي الحبكة، وقد أتعبتُ الصبيّة في أمور لا تعنيها من قريب، أو من بعيد.
صحيحٌ أنني لم أكن أتتبع أدبه منذ ثمانينيات القرن الماضي, لكنه كان ينمو في خاطري, ويتفاعل ما كتبه في أمور الحياة. هنالك كتّاب يتوجب على أحدنا أن يقرأهم وهو شابّ. سُئل جبرا مرة هل لديه فكرة عن قارئ أعماله، وأجاب: يا ليتني أعلم! مع السنين تختلف ذائقة القارئ، فما كان يراه مجيداً في الصفحة ربما يحرص الآن على نسيانه، والكتب التي كانت تحتل واجهة المكتبة ربما دأبت على الهبوط في المنزلة عاماً بعد عام.
رأي مماثل
بعد الرواية التي اشترك في تأليفها مع عبد الرحمن منيف، "عالم بلا خرائط"، لم أقرأ لجبرا شيئاً, حتى كتابه "شارع الأميرات" لم يحظَ مني بالإعجاب، بسبب بطء ورتابة إيقاع السرد فيه، والبساطة والقِدَم اللافتين للنظر في الأفكار والمعاني التي تثيرها لغته، ذات البلاغة الشاحبة. عدا قصصه القصيرة التي يتكلم فيها بحمية وإخلاص عن نشأته الأولى في فلسطين, وعدا روايته التي وثّق فيها لخطواته الأولى في بلده الثاني, العراق, عدا ذلك نجد أن أدب جبرا الروائي والقصصي تغلب عليه الصنعة على الطبع.
هنالك فرق كبير بين كتابة السيرة والتأليف الروائي . مادة الأولى جاهزة, بينما الثانية من خلق الكاتب, وهنالك أمثلة عديدة يمكن الاستشهاد بها: "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم ليست أولها, و"سيرتان" لسليم بركات و"الوليمة العارية" لعلي بدر ليستا الأخيرتين. عندما يجرّب مدوّن الذكريات الخوض في يمّ التأليف القصصي نراه يجهد نفسه إلى الحدّ الذي يجعلك تخشى عليه من الغرق . الثغرات في الرواية التي يحاول تأليفها كاتب السيرة عديدة، ولا يمكن لأحد تمرّس في القراءة التغاضي عنها. منها أن الكاتب يلجأ إلى الخيال في الواقع عندما لا يسعفه الخيال في الفنّ، ومنها أن شخوص القصة يبدون كالدمى، إذا تحرّكوا فهناك من يدفعهم للحركة، وإن نطقوا يأتيك صوت الكاتب نفسه. يوصف هذا النوع من الخلق ب"الكتابة باليدين"، حيث يجلس المؤلف إلى مكتبه جامداً، معّذباً، مثل شجرة عجوز في عزّ الخريف، ويحاول العمل تحت إلحاح ضرورة تجهده وتشقيه. يحصل الخلق الفني عندما يجوس الفنان بقدميه خلال أنحاء نفسه التي يسكنها كما يسكن غابة. في كل قصة ورواية عظيمة هناك الكثير من الواقع، ومن الرغبة بالعيش فيه، هناك من الصبر ما يكون صالحا لقرون عدة، هناك المحسوس والملموس، وهناك العالم المتحرّك الحي.
روى لي أحد الأصدقاء اللبنانيين أنه كان يلتقي بجبرا كثيراً. في إحدى الأمسيات صارحه بهذا الرأي: لماذا تكون حميمياً في الكتابة عندما تتذكر أهلك وأصدقاءك, بينما نراك في التأليف القصصيّ في مزاج مختلف. زعل جبرا من هذا الكلام, وفترت العلاقة بين الاثنين بسبب ذلك.