طالب عبد العزيز
لا أظنَّ عريان السيد خلف، الشَّاعر كان صادقا يوم قال:" يلتمّن عليَّ مشتتاتِ البالْ، وأنفضهنْ نفضْ ولا چني". فقد عاش ومات مثل كل العراقيين، مهموماً بحسِّه السياسي والوطني والاجتماعي أيضاً. ولا أراه في هذه إلا أنه كتب مرثيةً لنا جميعاً، بل نحن نكتب ونقول أكثر من مرثية لبعضنا كلّ يوم، في الصباحات التي تشرق الشمس فيها، وفي المساءات حيث تغيب، كل واحد منا يقول لصاحبه مرثية، باختلاف الصوغ والاداء
أترانا مطمئنين لبعضنا بقولنا: (صباح الخير)؟ بكل يقين، لا أرى فيها إلا تفتيتاً يائساً للخوف الذي يُضمره النهار لنا، ومثلها حين نقول: (مساء الخير)(شلونك، إن شاء الله خير) وعبارات أخر، هي بذات المعنى، كلها ترشح مخاوف مما سيقع، هناك شعور شبه قاطع، بفجيعة ما سيقع، فحياة العراقي تنتجُ المخاوف، وتستثني المسرات. كلّ الذين يسألون عن أحوالنا، أو نسأل عن أحوالهم يعرفون معنى الردِّ التقليدي (الحمد لله، أنا بخير) نحمده على (الخير) إذا بقينا يوماً واحداً أحياء لا أكثر، أي حياة وأيّ خير؟ ترى، ماذا عن قادم الأيام، وقائمة المخاوف طويلة، لا تبدأ بالصباح ولا تنتهي في المساء.
نحن نحزن أكثر مما يحقُّ لنا، ونفرح أقلَّ مما خصص لنا، مع أن القاعدة والفطرة لا تقول بذلك . عبر الهاتف، نتصل ببعضنا لا لحاجة إنما لنؤكد حياتنا، ولنقول للآخر، بأنَّ يوماً آخرَ مرَّ دون موت، ولا نحدد هيأة الموت، إذ، قد لا يكون خلو المنزل من السَّمن موتاً، أو سقوط قذيفة قربنا موتاً آخر، فنحن نربك سلم الأولويات في الحياة والموت، مثلما، نربك سلم المباهج والأفراح، فقد يكون تخرج أحد أبناء الأسرة في الجامعة أمراً عابراً، بل ومجيء مولود جديد للبيت حدثاً لا معنى له، ذلك، لأننا أصبحنا خارج ترتيب الأحزان والمباهج.
يعلل بعض (المؤمنين) مثل هذه بقوله:" أليست هذه سنّة الحياة، الطمأنينة والخوف من شأن الرب؟" ويضيف بأنَّ الإنسان ملقى في الحياة ولا يعرف عن مصيره شيئاً وو. يا ترى، لماذا نحن الاستثناء الوحيد بين العالمين؟ من قال بأننا يجب أنْ نظل أسارى الرعب في المدونات؟ ولماذا لا ندرك المعاني الحقيقية لوجودنا؟
هناك من يسوّر حدائقنا العامة بصور رموزه، ويُصرُّ على إبقائها مفزعةً الى الأبد، لا لأنه معنيٌّ بما فعلوا، وما كانوا عليه، وماتوا أو قتلوا من أجله، إنما ليمرر سبباً من أسباب وجوده، ونفوذه، وقدرته، وحجم كيس ماله، عبر الصورة هذه، حيث يحرص على إقامتها في الساحة والشارع، هناك، من يسوّق الخوف ليحيا سعيداً بما عنده. في المدينة التي أعيش يستبدل أبناءُ أحد المتوفين صور والدهم، كلما أزالت الشمسُ ملامحه، ويجددون هيأته بأكثر من ثوب، لم يكن بطلاً، ولم يقع شهيداً في حرب، لكنهم يصرّون على تسويقه بحسب رغبتهم. إذا كانت المباهج والاحزان نسبيةً بحسب المناطِقة، فأنَّ الحياة حقٌ، نحن نتحدث عمّن يقتصُّ من حياتنا ليحيا.