طالب عبد العزيز
لا تكتب صديقي الشاعر عمّا فُجعت به بالامس، إنسَ ما أنت عليه في اللحظة هذه، ولا بأس عليك، أخرج من غرفة المكتبة الضيّقة، بأرففها، وأتربتها، ودع عنك أصيص الأوركيدا الذي يوشك، يموت، حيث تجلس منذ الصباح، ثمة فسحة أكثر دعة في الحديقة، على النهر،
حيث وطّنت جسدك منذ عقد ونصف قرن، لا تصغ لصوت بائع الخردوات، ولا لصخب العربات، بسائقيها القبحاء، لكنني أدعوك لاستحضار صوت ماكنة السقي، في الأرض التي كانت واسعة لك، تلك الجلبة المحببة لقلبك، استحضرها في قيعة ماء، أو في زنبيل رطب، او في باقة بقدونس حتى، الاستحضار غير مكلف، هو أن تغمض عينيك لا أكثر .
أعلم، أنَّ القصيدة التي شرعت بكتابتها قبل يومين أخفقت، وأنك نمت ليلتك حزيناً وبلا نبيذ، وأعلم ماذا يعني إخفاق قصيدة عند شاعر، هل أقول بأنَّ الحرف الذي اخترته كان سيئاً، لكنني أذكر أنني قلتُ لك بأنَّ الفكرةَ عن الموت لا تنتج قصيدة جيدة، وأنَّ تأمل نسرٍ في الفضاء يوهم الأبطال على الأرض، وأنَّ منقلبَ أشهر الربيع الأولى لا يسرُّ الصيادين في البحر، وقلت لك مثل هذه وتلك الكثير. لو أنك قلت على سبيل المثال:” لستُ منهكاً ما فيه الكفاية لأتمددَ في أغنية/ أنا شجن قديم لا أكثر / ولستُ سعيداً بما يكفي لأقول تقريظاً في اليابسة/ أنا جذع شجرة يوشك أن ينهض/ كنتُ قد منحتُ النسورَ المهاجرةَ أغصاني ذات يوم / وعنّي أخذت السماءُ تقلبها في الفصول/ وهذا مديحُ للذين يمرون بي، أتلوهُ، لأنني أملك النهر هذا بذاكرته الماء، وبكل ما فيه من الموج.
ففي الأمس أيضاً، حدث أن أخطأتُ، فأنكرتُ صداقتي مع امرأة، إذ، وأنا أزوّلُ حروفاً على شاشة (اللابتوب المحتضن) كما يسمّيه سعدي يوسف، ضغطت زراً مبهماً، فأحدث هجراً أو ما يشبه نسياناً بيننا، كان حجمُ رقعة الأزرار في اللابتوب هائلاً جداً، هكذا، ودون دراية مني، قطعتُ وصلاً ، وبعدتْ سماءٌ كانت لنا. لا تؤتمن الآلة الحقيرة هذه على شيء، وفي مشقّة لم أدركها من قبل، حدث أن اتصلت بي مستعلمة عن سبب لذلك. قلتُ: لا، لم أفعل، هذه الآلة تفسد ما بيننا، وأنت تعشب في يباب القلب منذ ثلاثين عاماً. فدى عينيك كل شركات الحواسيب في العالم، أبرأ من أصابعي إن فعلت ذلك ثانيةً، من تراني كيما أضغط زراً يقطع وصلاً بك،؟ هل كتبتُ غزلاً فيها؟ ما بيننا لا يُختزل بقصيدة، أو في كتاب والله، نحن سلالة عاشقين، جبلت من عناق وقبل وانتظارات، من سفر وحقائب ومحطات، من غضب وحنين وشتائم، فلا تفلحُ أزرارُ الكون في تزويل قطيعة بيننا.
أعلم أنَّ القصيدة أخفقت، ذلك لأنني لم أحسن اختيار حروفها ربما، أو لأنَّ موضوعها كان عن الموت، لكنني، أعلمُ أيضاً بأنَّ صوتك المنغّم الحبيب، الذي لم تظهر صورته على شاشة اللابتوب عبر المحيطات لي، وهو كفايتي في لحظتي هذه، وفي يومي هذا، من عامي هذا، ألا يكفي أنّ يبدأ يومُ امرئ شاعر مثلي، بصوت عاتب، لامرأة لا أحصي أسماءَها بين الفراشات.