ستار كاووش
كي تستمر الطبيعة في إنتاج الجمال والسحر والعطاء، فهي تغيّر ثيابها دون توقف أو انقطاع. وذروة هذا التغيير تكون في فصل الخريف، حيث تتأهب الطبيعة للاحتفال بعد أن تخزن فساتين فصولها الثلاثة السابقة، وتمضي لتتعطر وتستحم بأوراق أشجارها الصفراء المتناثرة مثل دراهم ذهبية،
يالجرأة التجدّد، ويالجمال الحيوية. مع ذلك، فهذا الفصل الجميل -مثل كل شيء في الحياة- يحتاج الى طبيعة ملائمة كي يُظهر هذه الوثبة الجمالية، يحتاج الى حدائق وغابات وطبيعة، يحتاج الى أماكن مناسبة يغير فيها جلده كما تفعل الأفاعي ذلك كي تستمر في الحياة، يحتاج لضوء يكشف جماله، كذلك لعيون تشاهد هذا الجمال الآسر. فالحاضنة المناسبة أساس وجود الخريف الذي لا يمكن مشاهدة سحره وسط صحراء قاحلة أو بين أمواج بحر متلاطمة، ومن يعيش في الريف، سيشعر بذلك ويتحسسه أكثر من سكان المدن المكتظة بالزحام والسيارات والمارة.
عشتُ مثل كثير من الناس، وسط المدن، كذلك قضيتُ سنوات طويلة من حياتي حتى هذه اللحظة وسط الريف والمناطق الزراعية شمالي هولندا، لذا يمكنني الحديث عن ما رأيته في هذا الفصل الذي أعتبره أجمل الفصول دون استثناء، حيث تتحول الغابات والحدائق والحقول الى مكان مثالي للتجول، فتستقبل الطبيعة الناس وهي تفتح دفاترها وتنثر فوق هاماتهم أوراقها الشبيهة برسائل تتأرجح في الفراغ وتلتمع مثل قطع الحلوى التي تنثرها الأمهات فوق رؤوس أبنائهن بعد نجاحهم في المدرسة.
الخريف ليس نهاية الفصول ولا نهاية الحياة كما يظن الكثيرون، بل هو بداية جديدة تلوح في الأفق، وقد أدرَكَ الهولنديون طرقاً ومناسبات كثيرة للتماهي مع هذا الفصل وجعله ملك الفصول وذروة بهائها، حيث تتداخل الخَيارات ويمتزج جمالها مع لون الطبيعة، فإن لم يعجبك المنظر المدهش للقرع الأصفر الذي يضعه الفلاحون قريب بيوتهم، ولم يستهوِكَ الفطر الذي يملأ الغابات في كل مكان، فربما عليك التوجه لمدينة خروسبيك التي يقام فيها كل خريف مهرجان النبيذ، حيث يمكنك وبمتعة استثنائية تذوق ثلاثمائة نوع من النبيذ، وإن لم تَرق لك هذه الفكرة، فما عليك سوى الانتقال الى مدينة سيتارد التي تحتفل في هذا الفصل بمهرجان الجعة الذي يستمر ستة أيام، حيث تتحول المدينة الى حانة كبيرة يملؤها الغناء والرقص والصداقات. حسناً، يمكنك نسيان كل ذلك والتوجه نحو غابة صغيرة من تلك التي تملأ البلاد، والمضي مع صوت خشخشة الأوراق المتكدسة تحت قدميك، حيث يتدرج اللون ويتناغم بين الأصفر والأحمر والقرمزي، لتمتزج هذه الدرجات مع بقايا اللون الاخضر الذي مازال متمسكاً بحافات بعض أوراق الأشجار، ليكوّن في النهاية مشهداً ينقلك لأجواء الحكايات وقصص الغابات الساحرة. والتجول المثالي في الغابات يكون عادة بعد توقف المطر وعند شروق الشمس، وقد فعلت ذلك مراراً، وبعض هذه المرّات كنت أبحث مثل الكثيرين عن التوت البري بلونه الذي يتدرج بين الأحمر القاني والأسود، لكني بدلاً من العودة الى المرسم بسلة مليئة بالتوت، كنت أجهز عليه في الطريق وأعود بسلة فارغة، وليس كما يفعل صديقي بيرت الذي لا يكتفي بسلته المليئة بالتوت، بل يحشر فيها مجموعة من زهور الهيدا البنفسجية، التي تمزجها زوجته مع التوت لتصنع من الخليط مربى برائحة الورد، يكفيهم لفصل الخريف. وبإمكانك أن تغير خططك كلها دفعة واحدة، لتجعل من المكان سفرة ليوم واحد، وما عليك في هذه الحالة سوى أن تضع في سلتك ملاءة قماش وبعض الشطائر والنبيذ وقطع من الكعك الذي يسميه الفلاحون هنا (حوافر الماعز)، فتفترش أوراق الأشجار وتغلق هاتفك وتستلقي وسط الطبيعة، وإن كنت محظوظاً في ذلك اليوم فسيمر حتماً قربك أو فوق رأسك سنجاب أحمر، أو تنتبه لطائرين يتناوبان على جلب أعواد القش لبناء عشهما الجديد.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فلكي تكتمل صورة الخريف، عليك بالتطلّع الى جمال الفلاحين وهم يجعلون هذا الفصل، العتبة التي تدفئ شتاءهم القادم؟ يا للتفاصيل التي تقطر جمالاً وألفة، ويا للسعادة الغامرة التي تهز روحي وأنا أتطلع الى هؤلاء الفلاحين وهم منشغلون بتهيئة مدافئ الشتاء، وتجهيز أماكن تقطيع الأخشاب التي تقطع بحجوم متقاربة، لتحمل بعدها بعربات اليد الصغيرة، ثم تُنَضَّد فوق بعضها بعناية، لتكون في النهاية كدساً جميلاً هو عبارة عن حطب الموسم الجديد. أحمِلُ نفسي وأمرُّ غالباً في المساء قرب مزارع الفلاحين وأنا أشم رائحة بقايا خشب البلوط المتناثرة التي قُطِعَت تواً، وإمتزجت مع رائحة العشب، بينما إلتمعت قطرات الندى على حبات الكستناء الداكنة المتناثرة على الأرض، ليكتمل المشهد بخوار الأبقار الضخمة المبقعة بالأبيض والأسود، لتكون هذه الصورة التي تشبعت بها عيناي كثيراً، من أجمل ما شاهدته في خريف هولندا.