يرى أنه عمد إلى صنع تاريخ مظهري يوهم متلقيه بحقيقيته ليجاور التاريخ (المسّطر)
حاوره: علاء المفرجي
القسم الاول
جهاد مجيد المولود عام 1947 يعد من جيل الستينيات، فقد بدأ النشر منتصف هذه الحقبة في مجال القصة القصيرة فأصدر عام 1972 أولى مطبوعاته هي (الشمس في الجهة اليسرى) وهي مجموعة مشتركة مع كتاب آخرين.. ثم أصدر عام 1988 مجموعة أخرى حملت عنوان (الشركاء) . وكانت آخر مجموعة قصصية له هي (الرغبة السامية) التي صدرت عام 1989. تقول الناقدة نادية هناوي عنه: جملة جهاد مجيد رصينة قوية تدل على ثراء الكاتب اللغوي وخزينه المعرفي في ما يكتب. مشدّدة على ضرورة دراسة أعمال جهاد مجيد الروائية من قبل النقاد."
فلأعمال الروائي جهاد مجيد خصوصية في السردية العراقية، فقد اتجه الى الرواية وأصدر أولى رواياته ( رواية الهشيم)، عام 1974. ثم (رواية (حكايات دومة الجندل)، عام 2001 ، و (رواية تحت سماء داكنة)عام 2010. ثم روايته الحديثة الإصدار (أزمنة الدم) عام 2016، منازع التجريب السردي في روايات جهاد مجيد، للباحثة الدكتورة نادية هناوي ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت، طبعة أولى، 20116.
*هل تحدثنا عن بداياتك وأبرز المؤثرات في ميلك الى القص ؟وهل هناك مرجعيات بعينها استندت عليها؟
- في البدء كانت المدرسة الابتدائية حيث تعهدنا أساتذة أكفاء مخلصون إلى كل ما هو سام وصادق وجميل فكانت المدرسة من خلالهم خير حاضنة ومحفزة إلى التطلع والطموح, غرسوا فينا حب الكلمة الصادقة، الهادفة، النافعة، وحب أصحابها الأعلام والإحساس بعظمتهم؛ بالتعريف بهم والحديث عنهم بإعجاب وأحياناً بتبجيل، والاستشهاد بمآثرهم واعتبارها معايير للإنسانية, فكانت تطالعنا أقوالهم بأجمل الخطوط في لوحات الشرف المعلقة على جدران المماشي أو الصفوف كحِكَم جاذبة ونافذة في الأعماق: حكمة اليوم.. حكمة الأسبوع .. حكمة الشهر, دينية أو أدبية أو اجتماعية لشخصيات مقدسة أو تراثية أو أعلام معاصرين حكماء وأدباء أو علماء؛ من خلالهم عرفنا شخصيات ما كان يتيح لنا معرفتها الدرس الابتدائي المقرر؛ عرفنا من الفلاسفة الأقدمين أرسطو وأفلاطون وسقراط والفارابي وابن سينا والرازي والغزالي ومن الأدباء المعاصرين حببوا لنا جبران وأبا ماضي والمنفلوطي والرصافي والزهاوي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأبا القاسم الشابي بأجمل أقوالهم وأعمق أفكارهم وأصدق تجاربهم، فانطبعت في نفوسنا عميقاً فكانت أرضاً خصبة لإنبات الَمَلكة الأدبية فينا أو لإذكاء شرارات الوعي للانطلاق نحو ميادين المعرفة والإبداع.
بالنسبة إليَّ كانت المدرسة الابتدائية منطلقاً قوياً نحو الأدب عامة, أما القص, فلا أدري بالضبط ما العوامل التي ألقتني في يمِّه الهادر, والعوم في تياراته الجارفة ..لعلها تلك الأحاديث ذات السمة السردية التي كنتُ شغوفاً بالإصغاء إليها مع باقي أفراد الأسرة من الأب أو الأم أو أقارب آخرين؛ وهي حكايات أما واقعية صرفة أو خيالية للتسلية ؛حكايات الفقراء قبل أن يناموا وليست حكايات للأمير قبل أن ينام.
لم يكن هناك تلفزيون ولا راديو ..ولا ذهاب إلى السينما إلا في الأعياد؛ مع الأشقاء الكبار لمشاهدة الأفلام الميلودرامية أو الرومانسية المصرية أو مع الأتراب لمشاهدة طرزان وفلاش كوردن وزورو وماجستي والتي نعود لنقصها على الأتراب الذين لم يحظوا بمشاهدتها معنا. وبالتأكيد شكّل هذا الاستمتاع رغبة بالاستزادة من معين القصص وربط عربة هذه الرغبة خلف حصانها الجامح, وأولى محاولاتي الأدبية التي أذكر كانت مسرحية وعظية لا أتذكر اسمها قام بتمثيلها طلاب مدرستي بإشراف المعلم جواد الغافل وهو فنان محترف واعتقد انه كان من أعضاء فرقة الزبانية، كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي وبعدها بعام قدمت لي إحدى الفرق التلفزيونية – ربما فرقة الفن المعاصر ـ تمثيلية تلفزيونيةا بعنوان (من ظلام الماضي) أدى أدوارها فنانون محترفون، وبعد فترة نثرتُ هذه التمثيلية لجعلها قصة قصيرة –أقول نثرتُ لأني لم أكن مدركاً تماماً الشروط الفنية للقص فصاغتّها سليقتي التي تخلقت عبر قراءاتي القصصية المتنوعة من القصص الأجنبية والعربية، أما القصة العراقية فعرفتها لاحقاً, وقد نشرتُ تلك القصة النثرية في جريدة (كل شيء)الأسبوعية عام 1964وهي المرة الأولى التي أرى اسمي مطبوعاً في جريدة فكان ما كان ولم يسعني زمان ولا مكان .وهكذا سارت العربة خلف حصان القص الرهوان .
المشاهدات السينمائية الأولى على سطحيتها انبتتْ في نفسي ولعاً لمتابعة الأفلام سواء عبر شاشة التلفزيون التي توفرت فيما بعد لكل البيوت تقريباً أو من خلال دور العرض التي أصبحتُ قريبا منها بدخولي ثانوية تحيط بها عدة سينمات فكانت الستينيات حافلة بالأفلام المأخوذة عن الروايات العالمية ، وكانت هناك السينما الايطالية وواقعيتها الجديدة ،شغفتني، وحظيت ببعض من دي سيكا ،وفلليني وآخرين لم أتعرف على اسمائهم جيداً، شدتني الواقعية الجديدة باللقطة الحاضرة بقوة بتفصيلاتها، جزءاً جزءاً، شوارع تلصف أرصفتها تحت الأضواء الخافتة تصفعها قطرات مطر ترسم فقاعاتها على أديمها، شخوص يمرون مستظلين بمظلاتهم تسير معهم ظلالهم أمامهم أو إلى جانبهم أو وراءهم، الأضواء تتذبذب حولهم فالمصابيح مشنوقة بضباب شفيف كالغبش أو مناظر المنازل المتلاصقة في الأزقة الضيقة تتدلى من شرفاتها حبال الغسيل بأسمال ناس القاع المهملين في الزوايا الخفية أو المتكدسين على دكات البيوت اللانظامية، كأنها محاولة عنيدة للإمساك براهنية اللحظة، هذا ما أحسسته من تلك السينما وهذا ما تعلمته منها و ماتغلغل في سردي لاحقاً، السعي للامساك باللحظة الراهنة حتى لو كانت تلك اللحظة من الماضي، ليس لدي زمن سردي ماض، زمن السرد كله حاضر، وحتى المستقبل حاضر في الحاضر. في "الذكرى المئوية" استحضرت قرناً مستقبلياً لأضعه بين يدي الحاضر وكذلك مع قرن ماض قبل هذا الحاضر لتَمثل الأزمنة الثلاثة في زمن السارد وزمن التلقي.إنه تجسيد لتشابك الزمن بالتاريخ سردياً، حيث يغدو الراهن تاريخاً تارة أو يغدو مستقبلاً تارة أخرى ويدخل التدوين عنصراً فاعلاً في السرد.
*الحديث عن تداخل الازمنة واستحضار القرون الغابرة والقادمة يقودنا إلى استثمار التاريخ واستلهامه سرديا وهو ما طبع سردياتك خلال العقود المنصرمة وحتى الآن فكيف عشت خضم هذه التجربة ؟
-منذ ثمانينيات القرن الماضي ولجتُ مرحلة مهمة وجديدة في السرد باستثمار التاريخ بدءاً من الثلاثية القصصية (الذكرى المئوية، ذكرى القرون، خطاب القرون) والتي ضمتها مجموعتي القصصية ( الشركاء) عام 1988ثم روايتي (حكايات دومة الجندل )التي بدأتُ بنشرها في مجلة الأقلام جزءاً بعد جزءٍ ابتداءً من العام 1988حتى العام 1993عدا الجزء الأخير فقد نُشر في مجلة الأديب المعاصر في العام 1993 نفسه وكانت تجربة تعكس منهجي الخاص الذي أطلقت عليه الواقعية الإيهامية ومؤداه تخليق واقع نصي يوهم بحقيقيته التاريخية أو صدقية واقعيته اللاحقيقية، وهو ما ترسخ أكثر في روايتي (أزمنة الدم ) التي نشرتُ فصلها الأول وجزءاً من فصلها الأخير عام1994 في مجلة الأقلام ثم صدرت في كتاب عام 2016. ولم يكن اهتدائي إلى استثمار التاريخ هذا لأغراض شكلية حسب؛ بل كان ارتباطا بمفهوم تولد عندي أساسه النظر إلى التاريخ كوقائع مشكوك بحقيقيتها ومطعون بصدقيتها، وعُرفتْ هذه الافكار فيما بعد في كتابات منظرين غربيين مثل وايت وريكور إلا إنها لم تكن قد وفدتنا آنذاك ولم تكن مطروحة لا في الساحة العراقية ولا العربية وربما لم تتم ترجمات تلك التنظيرات حتى أواخر التسعينيات. إن مفهوم (الواقعية الايهامية) المصطلح الذي نحتُه آنذاك مساوياً أو مرادفاً للاصدقية التاريخ وزائفيته واختلاقيته, وبالتالي وهميته، عمدت إلى صنع تاريخ مظهري يوهم متلقيه بحقيقيته ليجاور التاريخ (المسطّر) الذي هو لديّ ولدى الكثيرمن منظري الغرب ثم العرب لاحقاً يعتوره اللاصدق والزيف والوهم أو الايهام.
*خلال أربعة عقود قدمت منجزاً يعتد به في كتابة القصة القصيرة والرواية ..لكن النقد لم ينصفك بعد ما خلا بعض الدراسات النقدية ..هل ترى الحركة النقدية في العراق عاجزة بشكل عام عن اللحاق بالسرد العراقي الذي هو آخذٌ بالاتساع؟
-لاأميل إلى التشكي والتظلم من النقد والنقاد واعتبر الكاتب ناقد نصه الأول لا أعني يبوئه المكانة التي يشتهيها؛ بل أعني أن يكون مقتنعا به وموفراً له الأسس النظرية للدفاع عنه وهذا يشترط توفره على قدر مناسب من الوعي النقدي. ومن قناعاتي في هذا الصدد والتي ثبتُها أكثر من مرة أن النص المكتنز بقيمه الجمالية والفكرية ليس مكتوبا لزمانه فقط؛ بل لأزمنة أخرى. وهذا هو معيار ديمومة النصوص أو تلاشيها زمانيا ومع أن كتاباتي لقيت تقويماً كبيراً من لدن نقاد كبار وحظيت باهتمام وحفاوة أفخر بها إلا أن هناك مشكلات بيني وبين بعض النقاد والكتاب حالت دون أن تأخذ ما تستحقه كاملا. أنا ممن يؤمنون بأن على الكاتب أن يمتلك وعيا نقديا كافيا ليفهم ما يفعل ويفهم العملية الابداعية كاملة من حوله بما فيها الحركة النقدية؛ بل أذهب إلى أبعد من ذلك وأدعوه ليسهم بما لديه من رؤى وأفكار وتصويبات للدفاع عن مثاله الفني ومناقشة كل منسربات العملية الإبداعية. وعلى وفق هذا التصور دخلت معترك مناقشات ساخنة مع معظم نقادنا المعروفين وعلى مدى كل العقود الماضية وقد تحولت تلك النقاشات إلى مساجلات حامية الوطيس وأحسب أن ذلك يترك شيئاً من الأثر في نفوس بعضهم يترجمه بالنأي والصد عن أعمالي وربما إلى المعاداة وسأضرب مثلاً واحداً على ذلك ولي عليه شهود عيان وثقاة في منتصف التسعينيات تقرر في اتحاد الأدباء أن تطبع ستة كتب: اثنان في السرد أحدهما مجموعة قصصية والآخر رواية واثنان في الشعر واثنان في النقد. وتقدمتُ بروايتي (حكايات دومة الجندل) للجنة المشكلة من اثنين من أبرز نقادنا وقاص متميز كبير واتفقت أن تلجأ في عملها إلى وضع نقاط لكل عمل من قبل كل عضو من أعضاء اللجنة وكانت الاسماء والعناوين محجوبة وفي نهاية العملية الحسابية حظيت (حكايات دومة الجندل) بالنقاط الأكثر من بين الروايات المقدمة فاعترض على النتيجة أحد أعضاء اللجنة وهو ناقد كبير وأكاديمي كبير وأصر على استبعاد روايتي والسبب لأني خضت معه مناقشة على صفحات مجلة الأقلام فندت آراءه في قضية نقدية حساسة كان يعول كثيراً على تمريرها وذهب بعيداً في لا موضوعيته وعدائيته للرواية أن طالب بارسالها إلى خبير فكري معلناً عدم استعداده لتحمل ما فيها وهو الأكاديمي الديمقراطي اليساري علماً بأن الرواية قد حصلت على إجازتها من الرقابة بفضل الاستاذ باسم حميد حمودي الذي له مآثر لا تنسى في الوقوف إلى جانب معاضدة الرأي الحر والإبداع القيّم. هذا مثال واحد على ناقد واحد ساجلتُه في مقال واحد فما بالك بمن ساجلته مراراً وتكراراً ؟
*في دراسة الناقدة نادية هناوي(منازع التجريب السردي في روايات جهاد مجيد) انك اتجهت الى التجريب السردي في منجزك الإبداعي في رواياتك الثلاث وحتى في أزمنة الدم الى أي مدى يمكن أن تدافع عن هذا الاختيار؟
-اختيار التجريب لا يحتاج دفاعاً فهو الذي يدافع عن نفسه بنفسه، وعلى العكس فهو تهمة على من لا يمارسه إن كان كاتباً جاداً وطموحاً. وقد قلت مرة – قالباً المعادلة الديكارتية - "أنا أجرب فأنا موجود" بمعنى أن التجريب دليل على حيوية استمرار المبدع لا استمراره حسب. والتجريب أهم العناصر في دفع الحياة إلى أمام وفي كل ميادينها، وكل الأشياء قيمتها في نتائجها إلا التجريب فقيمته في محاولته لا تقل عن قيمته في نجاح نتيجته، الهيابون من التجريب لا يمكن أن يخلقوا شيئا لافتا للنظر فلن يتميزوا قط .
بعد تخطي طور التكون والنشأة وجدت نفسي ميالا لأن أجرب ما لم يجرب فكنت أول من جرب إطار الحكاية الشهرزادية مطلع سبعينيات القرن الماضي في قصة " ليلة منسية من ليالي شهرزاد " التي ضمتها المجموعة القصصية المشتركة( الشمس في الجهة اليسرى) مع ثلاثة من الكتاب الشباب "أنذاك" وهم ناجح المعموري ,وفاضل الربيعي ,ومحمد أحمد العلي .
ولعلي الكاتب الوحيد من جيلي تجرّأ بطرح روايته الأولى قبل أن يصدر مجموعة قصصية, فقد كانت كتابة الرواية أمراً صعباً واصدارها مغامرة غير مضمونة النتائج لا يُقدم عليها إلا من تجرّأ وتمرس بطرح مجموعة أو مجموعتين في القصة القصيرة .اصدرت روايتي( الهشيم) ولم أكن قد نشرت أية مجموعة قصصية . وتلتها كتابة رواية ( تحت سماء داكنة) وهي تجربة في كتابة رواية تسجيلية عن مرحلة مريرة من تاريخنا العراقي استشرتْ واستشرست فيها الديكتاتورية وزمرها البوليسية. واخفيت الرواية طيلة زمن الملاحقات والاعتقال وعند نشرها اطلقت عليها اصطلاح الأدب السري وهو ما استغربه أحد كبار نقادنا فاستفسر عن ماهية الاصطلاح فأجبته انه ببساطة الادب الذي يكتب بعيدا عن أعين الأجهزة القمعية والتي لو ظفرت به فلا مصير لصاحبه إلا الأعدام . ثماني سنوات دامت فترة الملاحقات البوليسية من اواخر عام 1978 حتى اواخرعام 1986 ومن ثم الاعتقال فمحاولة التصفية تسميما بمادة الثاليوم .عاودت بعد الشفاء من أعراضها المرضية نشاطي الأدبي وبدأت بمحاولات تجريبية جديدة قي القصة والرواية جرى الحديث عنها وتقويمها من قبل نقاد او قصاصين لهم باع في النقد ولن اكرر الحديث عنها فهي أمور باتت معروفة .