حيدر المحسن
-حتى الأزهار تموت قليلاً كي يفوح عطرها-
أنطونيو بورشيا
ذات مرة ألقى أحد النقاد محاضرة في الكوليج دي فرانس عن روايات الكاتب الفرنسي كلود سيمون، وكان هذا حاضراً. ظل يسمع طوال وقت المحاضرة على مضض، وينظر إلى ساعته، ويجفف عرقه.
قال للناقد في الأخير: إنني وجدت صعوبة في متابعة وفهم الأفكار العديدة في دراستك، فهل تستطيع أن توضّحها لي؟ أجابه الناقد: من حسن حظّك أنك لست مفكّراً، لأنك لو كنت مفكراً لما استطعتَ أن تكتب ما كتبتَ. جمع سعد محمد رحيم بين القصة والرواية والنقد والبحث الفكريّ، والعمل الصحفيّ، بالإضافة إلى كونه أستاذاً في الرياضيات، وهكذا جاء في أعماله شيء من كلّ شيء، أو أنها كانت محاولة جادّة في سبيل تحقيق هذا الهدف.
هنالك أشخاص يبدون كائنين منذ النظرة الأولى، وهذا هو سرّ الصداقة. لا أدري لم فكّرت وأنا ألتقي بسعد محمد رحيم أول مرة بنظرية ابن طفيل عن مثالية الإنسان في سليقته الأولى، سريرة نقية يسعى صاحبها إلى الارتقاء بها نحو الكمال عبر مسعى مضطرد دون لحظة إبطاء أو تلكؤ، ما الذي نقوله عن شخص يغلّف جميع أفعاله بمسحوق فكري من النوع الفاخر، ويحاول الوصول إلى هدفه عبر هذا الطريق، ولا سبيل له غيره؟
لخّص ويل ديورانت قصة الحضارة بكلمة واحدة هي "الرقّة"، يمكننا إضافة كلمة أخرى ليكون معنى الحضارة تاماً؛ "الدقّة". وفق هذا المعنى أريد أن أقدّم وصفاً وافياً للراحل؛ رجل رقيق ودقيق في كل ما يقوم به، أو في ما ينوي القيام به. بتنا معاً في إحدى السفرات في غرفة واحدة في الفندق، وفي الصباح كان مشهد سريري لا يختلف كثيراً عن فراش القبطان آخاب في الباقوطة، الشرشف مجعّد كما لو أن النائم خاض معركة، وثلاثة أرباع اللحاف على الأرض، بينما كان سعد محمد رحيم يرقد ساكناً، هادئاً، فراشه مرتّب كما كان في أول النوم، وكلّ شيء في مكانه، وليس فيه أيّة ثنية. نوماً هانئاً وأحلاماً سعيدة.
وكل هذا شيء...
أما الشيء الآخر فإن أعظم الصداقات هي التي تبقى غير مكتملة، عن عمد أحياناً، من أجل أن نترك مجالاً للخيال كي يؤدي الباقي، وتكون عندها العلاقة بين اثنين فنا قائما بذاته، يعيش في حاضر أبدي لا يتأثر بالظروف، مهما كانت. أصدقاؤنا الذين ماتوا نستمرّ في الحياة معهم في أعماق أنفسنا، نحبّهم، ونختلف معهم، ونتصالح. علاقتنا لن تنتهي، لأن هناك شيئاً أكثر من مجرّد الذكرى يجعلنا نرى مصيرنا يرتبط معهم. بين الوجود والعدم نختار الوجود، وهو خيارهم بالذات لأن الحبّ ينتصر على الفراق، وعلى الموت. عندما سمعت بنبأ وفاة سعد محمد رحيم كتبت هذه القصيدة:
أريدُ أن أكلّمَ أحداً
لا أحدْ
أنتظرُ أن يكلّمني أحدٌ
لا أحدْ
هذا اللا أحدُ الذي لا يكلّمه أحدٌ ولا يكلمُ أحداً هو (سعد محمد رحيم)
صديقي ،
رغمَ أنه مستنفدٌ، ميتٌ
لكنه الآن يبحرَ عائداً إلينا
لينقذنا.
في سبيل الحبّ الأشدّ وفاءً لا نسأل أنفسنا إلّام ستؤول هذه العلاقة الحميمة التي لا تنتهي إلا بانتهائنا، أو أنها لا تنتهي. هي تثبت لنا كل يوم أن من اصطفيناهم ما زالوا أحياء. عندما لا يكون للموت شأن في تفكيرنا فإن إيقاننا من موتهم دليل على أننا لا نستطيع فعل شيء من أجل نسيانهم، وعندما نرى أنفسنا ساكنين دائرة ليس لها مخرج، ندرك عندها أننا نجرّب العيش في الجزء الأرضيّ من الأبدية.
جميع التعليقات 1
عدي باش
إستذكار جميل و لمسة وفاء نقية ك صفاء و طيبة روح الفقيد الفاضل.. الإنسان المهذب الأديب سعد محمد رحيم... الرحمة و الذكر الطيب للفقيد الفاضل