طالب عبد العزيز
قد يبدو استبدالُ باب البيت القديم بآخر جديد فعلاً تقليدياً، لا ينحرف بوجودنا بالمعنى الحقيقي للوجود، فهو مما يقوم به كثيرون من حولنا، وكذلك تغيير ستارة النافذة القديمة، التي تراجع لونها بأخرى أجمل وأنصع، وهذه أفعال لا تحدث خللاً في توازنات الحائط والباب والأريكية والإنسان في المنظور القريب، ويمكننا أن نتحدث عن عشرات الاشياء، التي تشكّل الجانب المنسي، أو المُغفل عنه من حياتنا، وسط ذوباننا الدامي في تحقيق وتأمين الخبز والحليب واللحم والخضار، مادة الحياة الفعلية.
من فتحةٍ في النافذة أطلُّ على النهر الصغير، الذي يوشك يندرس، بسبب إهمال دائرة الريّ له، وعبث الجيران بضفتيه، النهر هذا، الذي تشكل ضمن المخيال الأول، وخبرتُ أصغر أحجاره وأطيانه، وعبر معاينتي الطويلة له، صرت أعرف أشكال وألوان الطيور التي تأتيه كل يوم، والتي كانت تحطُّ على أشجاره في النهار، أوالتي تغادره كل طلوع للشمس، وأعرف أيضاً مواسم نموِّ وذبول القصب فيه، ومواعيد المدِّ والجزر أيضاً، هذه الألفة التي تجاوز زمنها نصف قرن، هي مما لا أستطيع مبارحته، وأشعر بأنَّ أيَّ تغيير واستبدال فيها يهدم مقاماً مقدساً في روحي. هناك، من يرى في قصِّ قصبةٍ واحدةٍ، على ضفة نهر، فيه عشرات الآلاف من عيدان القصب فعلاً عابراً، ذلك لأنه لا يستشعر غربة العصفور الذي اعتاد الوقوف عليها.
دون أن أشيرعليهم بشيء، أبدل أولادي كرسيّ الكتابة، الذي مضى على وجوده هنا في غرفة مكتبي ربع قرن، نعم، أصلحتُ أكثرَ من مرة قوائمه، ولم تعد مسانده كما كانت من قبل، وهناك صوت تصدره اللوالبُ الحديدية، التي تمسك أجزاءَهُ، لكنني، الفتُه، ولم أشكُ أحدهم منه، فأنا أقضي الساعات الطوال من كل يوم جالساً، مستمتعاً برائحة الخشب، وأشهدُ أنَّ مقعده الجلد ما زال بليونته، التي كان عليها، لم تنل السنوات منه شيئاً، لكنهم جاؤوني بكرسي فخم جديد، تتزلحق قوائمه على عجلات أربع، وكل ما فيه مريح وجميل، كان عليَّ أنْ اشكرهم، وقد فعلت. لكنهم، ساعة أخرجوا الكرسي القديم أحسست بأنَّ جزءاً من كياني قد خرج معه، لم يذهبوا به الى مخزن الادوات القديمة، إنما ألقوا به على طريق مروري اليومي الى البستان، حيث اتفقد أشجاري مرة في الصباح ومثلها من مساء كل يوم.
أشهِدُ اللهَ أنَّ منظره يؤلمني، وأنني أرثي حال الكتب والقصائد والمقالات التي قرأتها وكتبتها عليه. ليس الكرسيُّ وحده من أرغمت على التخلي عنه، وخرج من البيت بالوضاعة هذه، هناك مقابض الابواب والاقفال وسلاسل المفاتيح والطاولات ودواسات الاقدام، التي ندوسها عند دخولنا وخروجنا من الحمام وو هذه الأشياء التي نصادفها في مخزن الادوات القديمة، ساعة بحثنا عن شيءٍ، شدتنا الحاجة له، حتى شغلتنا عمّا جئنا لأجله، نقف عندها متاملين الايام والاسابيع والسنوات، التي أمضيناها معها. هناك ما يتهدم ويبلى في الزمن، نعم، لكنْ للخلود في بعد ما جُرجر خارج إرادتنا لحظة سرمدية، لا تتغير ولا تبلى.