ناجح المعموري
لا أحد يتجاهل إمكانية القاص الراحل محمد جبر علوان في التخيّل الذي تطفح به سردياته وأنا لا أخفي دهشتي بعد الاستماع لأحد الأصدقاء الذين أثق بملاحظاتهم وهو قارئ ذكي للسرد على الرغم من تخصصه الشعري المتميز .
قدم القاص محمد جبر علوان صورة متعالية ومتميزة عن إمكانيته السردية واستثماره لفن السينما الذي تمركز بقوة في رواية لماذا تكرهين ريمارك ؟ وقدم تركيزاً سردياً لقصة محتملة الإعداد لسيناريو وأرسلها لصديقه برهان .
أعتقد بأن هذه الثيمات السردية الكبرى هي من أكثر وقائع الحروب حضوراً وتأثيراً ، على الرغم من تكررها ، لأنها الحدث الأكثر انتشاراً ، فقدان الأطراف والمهارة التي اشتغل عليها محمد جبر علوان وجعل منها سردية متحركة ، تدخل وحدات الرواية السردية وتتكرر ، مانحة للسرد تسامياً وشعرية مثيرة للدهشة والبهاء ، وعلى الرغم من أن فقدان الأطراف من ضحايا الحروب وقرابينها ، لكنها تحولت بواسطة المهارة الفنية المتميزة الى حضور مستعاد بقوة للتأكيد على طاقة الحياة ، واستمرارها وسيرورتها وتكون بذور شفيفة للحياة والعشق بوصفهما وسيلة مهمة لمقاومة دمار الحروب وتحديها ، وفعلاً وجدت المبدع محمد جبر علوان مقتدراً وبوعي فريد على مقاومة الموت واحلال الحياة ، عبر الحب في العلاقات الإنسانية / لم ينتبه في أول الأمر إلا حينما رأى نفسه يسير بإرادة وهيمنة الطرف الصناعي ، يقوده دون تدخل منه الى بيت الأرملة ، حيث يجد الباب موارباً والمرأة تنتظره في حديقة الدار ... ص71 .
رسم القاص ما أراد تصميم تفاصيل السيناريو ، وقال : ثيمة هائلة بطلها طرف صناعي لرجل ميت تعي جيداً أرملته ضرورة أن تديم علاقتها به عبر الصديق صاحب المقهى للمعاقين تحت شجرة عملاقة ممتلئة بحمام ملوّن / ص71 ، الطرف الصناعي أكثر الشخوص حضوراً وهيمنة في السرد وابتكاراً لتنوعات دراما الحروب / الموت ، ولعل المقهى ، المكان البسيط والمألوف جداً تحول الى بؤرة تتوفر على طافة استدعاء من خسر طرفاً واستحضار كل من يريد الاستماع لسردية الفقدان ، حتى يحقق اتصالاً مع الآخر ويتعرف على مروية جديدة ، وظلت المقهى ذاكرة لمرويات ، فيها تماثل وتباين عبر عناصر بسيطة ، لكنها ذات قوة حكائية ، مثل التي كتب عنها محمد جبر علوان قصته .
المثير إن اكرم خسر طرفاً ، دفنته ثريا تحت النخلة وغرست حوله زهوراً ملوّنة ، التوسع بالدور السردي الممنوح للطرف اغنى البناء وشحنه بروح متفائلة ، افضت للحب واقامة علاقة ، هذا ما حصل مع الزوجة التي اعطت طرف زوجها للشخص المفترض ، خسرت نومته معها فوق السرير وكفت عن الاتصال الرمزي الادخالي مع الغائب بواسطة طرفه ، الدال قضيباً على الرغم من طوله . واستطاع محمد جبر علوان بذكاء وتلميح ماهر الى اقتراح خفي لعلاقة مع الأرملة ، ابتداءها أحد أفراد الشلة في المقهى وبعد موت الزوج بشهور طرق بابها صباحاً رجل شاحب يضع في طرف فمه سيكارة من نفس النوع الذي كان الزوج يدخنه ، ويمسك بيده عكازاً وتفوح منه رائحة احسست بأنها تجذبها نحو أماكن ، سحيقة في أعماق مخيلتها ، تكاد تعرفها : ــ سيدتي أنا صديقة ..... لم تعد بحاجة إليه تدخله حديقة البيت . حيث كان زوجها يجلس على الكرسي .....» لم تعد تشكل أهمية تذكر لمن قادنا الى حروب مميتة قدمنا منها الأضاحي من السيقان والأذرع والكثير من الرعب الكامن في أعماقنا والذي لا نستطيع التخلص من آثاره مهما فعلنا ، لذا بتنا نعتمد في إدامة أطرافنا الصناعية على أنفسنا ، فقط نتخذ من المقهى مكاناً لتجميع أطراف أصدقائنا الموتى ليأتي من يحتاج لطرف يأخذه مجاناً ..... يفهم أن المرأة لا تريد أن تفرط بالطرف الصناعي ، مهماً برز لهذا يتركها منسجماً ناحية الباب بخذلان . وقبل أن يغلقه سمعها تقول له : إمهلني بضعة أيام / ص 87//
لحظة تضحية قامت بها المرأة ومازالت رائحة زوجها عالقة فوق السرير ، واستعاضت عنه بالطرف الذي يساعدها حتماً باستذكار الكثير من حكايات الفراش بالليل : ـــ سيدتي .... هذا الطرف شرب الحب منكما ... سأعيده اليك الآن . حينما يبدأ بخلعه ، توقفه ممسكة يده ، وبإصرار تطلب منه أن يبقيه معه . أن يترك الأمر له . فما المانع في أن يقودك الطرف كل ليلة الى بيتي / ص 87//
التقط المبدع جبر علوان جبر ثيمة الطرف وبنى عليه وحدات سردية ذات مصفوفات قيمية ومفاهيمية وجعل منه مفتاحاً لعلاقة إنسانية هائلة وحدت بين المرأة والساق ... وبين الساق والبيت . وأخيراً بين الرجل والمرأة .
العلاقة الأخيرة بين الرجل والمرأة تحد قوي لتعطيلات الحرب التي خسر الرجل فيها طرفه ، وهي ذاتها التي منحت طرف الزوج قدرة خيالية للابتكار وإقامة علاقة غرائبية ، هي من تمظهرات مهارة فاض مبدع وذكي ، يتمكن التقاط ما تعرفه الجميع ورآه الكثير ، لكنه نجح بخلق سردية متوترة بطاقة استعادة الحياة المتسربة بين الزوجة والرجل .
دفنت “ ثريا “ طرف أكرم تحت نخلة ووضعت صنجرة فوق القبر ، طرف الزوج الذي استعاره شاكر صاحب المقهى دفنته زوجته تحت شجرة والملاحظة الفنية المتناظرة بتكررها عبر العلاقة مع الالهة الام ، فالشجرة رمز للآلهة في الاساطير باعتبارها رمزاً للخصوبة ، وحافظت الزوجة على الطرف تحتها ، هذا ما صاغه القاص محمد جبر علوان وبالتالي منحته له ، وتحول وسيطاً لعلاقة حب قوية أما طرف أكرم فقد احتضنته نخلة البيت وهي ، النخلة ، رمز للأم في الأساطير وقد ظلت الأسطورة على علاقة عميقة مع الأنثى ويلاحظ التماثل الموجود بين الزوجة الذي قدمت طرف زوجها الى شاكر وبين طرف أكرم الذي استنبت حيويته الدلالية والتشابه بين الاثنين بالطاقة الرمزية ، لذا ذهب أكرم نحو ثريا منذ اللحظة التي جاءت إليه بتمثالها ورممه بطريقة ماهرة وأضفى عليه جمالاً واعتقد بأن تلك اللحظة التي استولدت رغبة لديه للدنو إليها أكثر . ووجدت في هذه الخطوة رغبة أوديبية ، لأن ثريا كانت أماً له كبرهان .
أحد أهم الملاحظات التي صاغتها شبكة السرد المتداخل هي الوقوف بقوة لمناصرة الحياة / الخصوبة / الانبعاث ومقاومة الموت والدال الأوضح على ذلك العلاقات مع الأنثى والتي تطورت لإدخالات لذّية .
“ ولماذا تكرهين ريماك “ إحدى الروايات التي ستظل بذاكرة السرد العراقي وهي تستحق عناية نقدية متميزة أكثر مما تبدّت عليه الاحتفالية التي أقامها اتحاد الأدباء .