TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العمود الثامن: فيلسوف البسطاء

العمود الثامن: فيلسوف البسطاء

نشر في: 20 مارس, 2021: 09:58 م

 علي حسين

بموت بسام فرج يسدل الستار على مرحلة مهمة من فن السخرية، ونفتقد واحداً من دراويش الفن، الذين اختلط عندهم الواقع بالرسم، فلم تكن هناك حدود فاصلة بين لوحة الحياة ولوحة الفن، وكانت الحياة بالنسبة له ورقة بيضاء كبيرة يرحل خلالها كل يوم مع هموم الناس، رحلة ربما تجاوزت النصف قرن، مليئة باللوحات الساخرة بالغة الوضوح والمعنى، تمنح صاحبها لقب فيلسوف الناس البسطاء، والناطق الرسمي بعرض همومهم.

عاش بسام فرج مهووساً بالتفاصيل، وهذا سر اختياره فن الكاريكاتير، ذلك الفضاء الساحر الذي لعب فيه كل الألعاب، رسم وصمم مطبوعات، رسوماً للأِطفال، أفلام كارتون، مشروعات مختلفة تشتغل على العلاقة بين الخطوط والكلام.

يعلن بشيء من التواضع: "تعلمت فن الاحتجاج عام 1956 إذ شاركت (ولأول مرة في حياتي) وبشكل عفوي وبدافع من العاطفة المجردة تماماً بالإضراب والاعتصام داخل المدرسة"، لكن كيف يحلم صبي عاش في الخمسينيات بمهنة لم تعرف على نطاق واسع إلا مع نهاية القرن العشرين؟ بدلاً من الإجابة، يروي لنا بسام قصة غرامه بأوراق الصحف، أشكالها وروائحها، وملمس المجلات: "في عام 1964 وقع نظري على العدد الأول من مجلة القنديل، وكانت ذات طباعة أوفسيت وبالألوان معروضة على واجهات أكشاك بيع الصحف، وبعد أن تصفحتها أعجبت بها جداً، وقررت أن أزورهم وأعرض عليهم رسوماً كانت في الواقع محاولات في الكاريكاتير". المجلات غيرت عالم الصبي الذي كان والده ينصحه دائماً "إبني... الرسم ما يوكلك خبز".. فجاء إلى عالم الصحافة مفعماً بالحيوية ومشحوناً بطاقة خفية، عاشقاً لمغامرات السندباد وصحبه الذين أحبهم، فهو مثلهم اتخذ من المغامرة متعة وأسلوب حياة. المعارك التي خاضها بسام كثيرة، لكنه كان يخرج كل مرة بإنجازات على طريق تحرير الخيال من العبودية في جميع أشكالها، القمع في المجتمع والكشف عن أقنعة السلطة التي تحتكر القوة.

فنان لا يرسم كي يُضحك الناس، بل يرسم كي يذكر الناس بما يحيق بهم، يخرج بسام من ظاهرة الرسم الكاريكاتيري المجرد إلى ظاهرة اللوحة الفنية، تلك التي تستبطن الفكاهة الحزينة لتصبح مادة سياسية فيها بامتياز، لوحات مشبعة بفن الفكاهة وليس فن الضحك، فكاهة ذات حس إنساني عميق.

في سنوات المنفى استمر بسام حياً بفنه وسط العالم الذي يزداد وحشة وإحباطاً، ولكنه ظل على بذرة الحلم التي تنبئنا بأن الفن خلاص وحياة وعين تبصر في البعيد وشمس تشرق بعد انقشاع ليل طويل.

يفاجئ بسام عشاق خطوطه الساحرة ونكاته الموجعة، برسومه الجديدة كل صباح في جريدة (المدى)، منذ أن اتخذ قبل أكثر من عشر سنوات قراراً بالعودة إلى المشاكسة.

يرحل بسام فرج تاركاً خلفه برودة سني المنفى وضجرها، متوحداً بذكريات سني عمره الأولى، ودفء الآلاف من محبيه الذين سيفتقدون سخريته اللامعة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. Anonymous

    نفتقد الانسان المبدع ونبكي ونحزن ونتألم ونفرح لموت المتوحش وفاقد الانسانيه الذين لايسهمهم ان يكون على غير انسانيين by human

  2. عدي باش

    الرحمة و الذكر الطيب للفقيد العزيز الفنان المبدع بسام فرج، أحد رموز فن الكاريكاتير الذي أضاء ليل حياتنا المظلم برسوماته الراقية

  3. اعتماد الدوري

    سنفتقد مكانه كثيرا ... كنت في العراق اشتري الجريدة اليومية وقبل قرأتي لأي مقالة عيني تذهب أولاً للرسم الكاريكاتيري لأعرف بما كان يفكر اليوم ؟ وكيف صورّ لنا ما نعيشه بطريقته الساخرة . الرحمة لفقيد العراق

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: عراق الشبيبي وعراق هيثم الجبوري

 علي حسين اظل أكرر واعيد إن أفدح الخسائر التي تعرض لها العراق ان الكثير من مسؤوليه وساسته غابت عنهم الروح الوطنية ، واصبحت كلمة النزاهة مجرد مفردة تلوكها الالسن ويسخر منها اصحاب الشأن...
علي حسين

كلاكيت: السينما عندما توثق تفاصيل المدينة

 علاء المفرجي بغداد والسينما.. المدينة والسينما.. كيف لنا ان نختار شكل العلاقة او ما الذي يمكن ان نكتشف من هذه العلاقة؟ وهل يمكن لبغداد كمدينة ان تنفرد مع السينما فتختلف عن علاقة المدن...
علاء المفرجي

الخزاعي والشَّاهروديَّ.. رئاسة العِراق تأتمر بحكم قاضي قضاة إيران!

رشيد الخيون وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أوالفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث...
رشيد الخيون

قَدْحُ زناد العقل

ابراهيم البليهي حَدَثٌ واحد في حياة الفرد قد يُغَيِّر اتجاهه إذا كان يملك القابلية فيخرج من التحديد إلى التجديد ومن الاتباع إلى الإبداع وعلى سبيل المثال فإن هوارد قاردنر في السبعينات درَس علم النفس...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram