حسين ثامر بداي
إن بنية العمل الفني لدى الفنان كريم سعدون هي فضاء مفتوح على فلسفة منغرسة حول الحس البصري، وذلك من خلال تقصيه لمديات الذاكرة ومعطياتها نحو أعماقها القصية،
حيث الغور في التشكلات الذهنية المنفلتة من أماكنها وتتبعها لتشكيل هيكلتها من جديد، فهو يستخرج الواقع من المتخيل ويمزج الخفي منه بالظاهر، ليتخطى بذلك وبدراية الفنان العارف لأدوات حدود المعنى.
إنه يوظف في بعض أجزاء العمل الفني وحسب ما يقتضيه المعنى المراد صياغته بعض قصاصات الأوراق والكتب القديمة وبتصرف مذهل ممزوج بين القصدية والعفوية الفنية فيُكوَن حكايات متراكمة ومتراكبة ويتصرف بتشكيلاتها فوق وتحت أحبار وألوان اللوحة ويمزج إياها بسماكة العجائن وهيمنتها ليُحيلها الى أسئلة حوارية بين شخوصه وخلال أزمنة وأمكنة مختلفة، إن هذا التراكم دون الإفصاح عن الملامح البارزة لأيقوناته التشكيلية، إنما هي بمثابة محاور متعددة الاتجاهات فيتنقل بذلك بين الماضي والحاضر بتداخل الشكل ومضمونه، هو يحيل ما مكتوب الى ممحي وما هو ممحي الى مكتوب بأبعاد ملموسة بصرياً وبلغة متقطعة لحوارات لم تكتمل، كعلامات ثابتة ومتحركة في نفس الوقت، حسب مخيلته الفنية مع العمل وما يحيط به من مؤثرات، وكذلك ما ينهلُ من ذاكرته وذاكرة الأشياء، فهو يحرر المادة من ابعادها الساكنة الى حكائية منفلتة دلاليا حيث البعد الروحي بصوفية اللون واختزالاته، وحركة الشخوص واستغاثاتهم، وتطريس الكلمات والارقام أو حتى من خلال تزميمها لتخدم سطوة الفكرة المراد طرحها ، إنه يعي مدى تأثير الكلمات وانثيالاتها في التفاعل ، فهي مشتقة من إحساسه بالزمان والمكان وفضاءاتهما وإدراكه لهيمنتها المؤدية بانسيابها إلى مسار دلالي باصطفائية متقاطعة ومتداخلة حد التلاشي، يحذف الكثير من حروفها ويبقي على ما يسحب العين للبحث والتقصي، وهي أي الكلمات والمفردات وحتى الجمل أو الأرقام، جاءت بمثابة استعارات مجازية صورية لأصوات مكتومة لغرض اكمال الحوار الخفي ومتابعة البحث عن معنى الترابط والقطع المتكرر في نفس الوقت، كل ذلك من أجل البقاء على هيمنة الفكرة المراد تشكيلها وإظهارها من أجل التمسك بها وترسيخها على شكل لوحة.
نعم، تمتاز أعمال الفنان كريم سعدون بأصوات صوفية متجلية ذهنياً، فهو يروض المشهد من خلال حركة الشخوص أو سكونهم والتكوينات الأخرى، ببعده الروحي، ثم يتدرج صعوداً نحو طرح الفكرة المراد البوح بصمت عنها. يستخلص ذلك من مخزون الذاكرة ومن تشظيها بين الحضور والغياب وبين المحو والتثبيت، بين الشطب والتجلي، بين التخلي والظهور وبين الطفولة والنضج، والماضي والحاضر، حيث إعادة البناء والتركيب حول الفراغات وداخلها، يجسد بذلك هيمنة الغياب القسري، حيث يقول في لقاء معه: ـ
(شخصياتي الآن تعيش حياتها الداخلية معبأة بأحزان وانكسارات، ومع ذلك لم تفقد الحلم، ومازالت تحلم بانفلات جديد لأن الواقع يتيح تواطؤاً يتعين في إعادة تدوير هذا الحلم، وكأنني أريد أن أصرّح لها بانحسار فرص العثور على ملامح مكان يحقق لها استقراراً، شخصيات كأنها خزان كبير لأرشيف من الخيبات والصور والحنين، تبدو هادئة وصامتة ولكني حاولت أن أضع فيها احتداماً لبوح داخلي، أحاول بذلك التصريح، التنبيه لإدراك حقيقتها كونها شخصيات تعمل دوماً في حراثة حقول الغريب).
أن بنية أعمال الفنان سعدون متأصلة بين مسارات الأشكال وما يحيط بها من ذاكرة، أو ذاكرتها هي حيث الألوان وتراكيبها، والمادة وتمازجها بين الحلم واليقظة، بين الغياب والانتظار، بين الظاهري والباطني، بين الحسي والمدرك وبين الارتقاء والهبوط وبين الحوار والصمت، إن ما بين المربع والدائرة شموخ جسد، ومابين الكرسي والسلم يوجد الحكم أو التسلط، وما بين المحو والإثبات يندمج التلاشي، ومابين الجسد والرأس تتحكم القطيعة، وما بين اللون والحرف يتجسد الحوار.
إن سطوة الفراغ في لوحات الفنان كريم تحمل في عمقها الافتراضي سطوة البياضات التي تتماهى مع الحضور والغياب وتتجانس مع الحوار المغيَب، ومع الظهور حد التجلي أو التلاشي حتى الاختفاء، بين الجسد وما يحيط به من ظلال وما فوق أو تحت الاثر.
إن الفراغات وإن كانت بمسافات فسيحة، منفتحة، فهي في الحقيقة وعند التأمل نجدها زاخرة بالتعرجات والأنثيالات وكذلك الحك والشطب، حيث سطوة الطلس في غالب الأعمال الفنية لإثبات ماهيةُ الحركة. وان تفاعل المادة وخشونتها أو تكتلها داخل العمل الفني مع الفراغ، ماهي الا تشكيلات اخرى، وما هي الا طلس من نوع آخر، حيث يتبادل عامل التأثير بين عناصر وأجزاء الأشكال، مكونا هارمونية متناغمة حسيا مع الشكل العام وكليته، أن هذا التفاعل له خصوصية التجانس والتداخل بين الخطوط وايحاءاتها او رمزيتها وبين الشخوص واغترابهم الروحي والمادي والكامن بين مفردات الكلمات ومدلولاتها، بين الأسئلة وأجوبتها. وكأن الفنان يريد الخوض في مفهوم التناص وتعرية النص من معناه الظاهري للولوج الى ما وراء سطح العمل والخوض في اعماقه، وهنا يريد تأكيد النتيجة الفنية في معنى من معانيها الحسية عبر الخوض في إدراك الدالات، ليس بقصدية التماثل الشكلي وإنما من خلال تجسيد البوح المكتوم لغويا، حيث لغة اللون مع لغة المفردة أو الأرقام المطلوسة أو الظاهرة أو المزممة بروحانية التصوف اللوني، بمثابة لغة متعددة الاصوات بنبرة واحدة، تتخللها تموجات أفقية وعمودية، فهو يكثف الاشتغال على هارمونية اللون والأفق العام بواسطة حركته الانفعالية وحتى الساكنة منها. وكأنه يمارس
غعادة ترميم هيكلية العمل الفني بمزجه للمواد المختلفة واستحضار ما يريد الوصول الى تشكيل الهرمية البنائية، بكتل تساهم في تراكم البناء وتقنيته، فمن خلال إعادة بناء العمل الفني بتمازج وتماهي المواد المختلفة من عجائن وورق ومواد مختلفة أخرى، يتم الدمج بين المواد والمضامين البصرية للعمل، ليس بغرض تشكيل الكولاج أو التركيب الصوري والشكلي وإنما لمساندة البناء التقني الفني لغرض تشخيص الفكرة، حيث نلاحظ رؤاه الفكرية متلاحقة من خلال التداخل والتمازج، وهذا ينم عن تداخل وتزاحم الاشياء والافكار عند الفنان كريم سعدون.
هو يدرك معنى التماثل العيني، لذا نراه يمحو بوعي ويثبت ما يتناسب حسيا مع مفهوم اللوحة لديه، أنه يستدعي الممحي ويستدرجه، ثم يظهر ما يراه يتفاعل مع مفهوم الدلالة التشكيلية في عمله بطريقة الفنان العارف لما لتشكيلات التطريس والتزميم من أثر فني وما يتركه من انطباع حواري، فهو في منجزه الفني كأنما يروي لنا عن ظلال لحكايات متأرجحة ومتآكلة بسبب الحروب المتتابعة على وطنه الأم حيث العراق، أنها أي الحكايا وظلالها، متداخلة السرد ومتلاشية الأصوات والصدى، بسبب تعدد الرواة وكثرة الشخوص وتشابههم أو تشابه حناجرهم واحداثهم وإن اختلفت ، لأن الحدث، حدث الحروب متكرر ومتشابه، فيتقاطع فيها الضياع بالغياب، السكون بالحركة، الصمت بالبوح، الصراخ بالعويل، البكاء مع الضحك،…… من خلال الفتحات الدائرية أو المربعة والتي تتداخل فيها الكلمات والأرقام والجمل المطلسة والمتزممة كإيقاع موسيقي بأوتار متقطعة بفعل فاعل.
فمن خلال فلسفة المحو والتثبيت يطْفُو المعنى العائم والمركب، والمجاز الرمزي للدلالات اللونية والمتماهية والمتمازجة مع الخطوط، فيقودنا الى تأمل الأعمال والخوض في حوارات افتراضية تتجاذب مع الذوات والحيوات المستلبة. هو يؤكد هنا تجاوز التشخيص وتجاوز الشكل وتفصيلاته نحو الوصول إلى الفكرة ومعطيات تلمسها وملاحقتها. إنه يمنح العمل الفني طاقة التأويل، من خلال مجسات التعبير بتجريدية الأشكال المحيطة بشخوصه المجردة أصلاً، إنه يدون من خلال الطلس معنى ما هو مطموس وغائر ومحجوب لتحفيز مخاتلة صمت الحوار المكتوم.
إننا نلمس الانفعالات الحسية في أعمال الفنان كريم سعدون من خلال الخطوط الخارجية وتحديداتها الحادة أو تقاطعاتها أو تماهيها، حيث خضوع الألوان بتماسها مع سطح اللوحة الى سطوة المعالجات التقنية للبناء، بما يكون ناتجا للعلائق فيما بينها. وبشكل مجازي أستطيع القول، قد يعيد الفنان تصفيف أو تنضيد بعض الحروف والكلمات والأرقام، ليستخلص منها ما تساقط وتلاشى، وما تناثر واندثر عبر الزمن، ليعيد صياغته وتشكيله من خلال وعيه هو، وما يريد أن يطرحه عبر خطوط متراكبة فوق مدونات الطرس، مشكلاً شخوصاً يهيمون بالضياع، يتحاورون مع بعضهم بصمت او مع الفراغ أو مع ما يحيط بهم، حسب تخيل وإدراك وذاكرة كريم سعدون نفسه.
نلاحظ في الكثير من الأعمال تكرار مفردة الكرسي، السلم، الجسد، الرأس، الكلمات، الأرقام، المربعات، الدوائر والمثلثات، وهذا يحيلنا إلى رمزيتها والخروج من هيئتها المباشرة وربطها مع حدث اللوحة وكينونتها، فهي أي المفردات والايقونات رموز اراد منها أن تتجلى وتترسخ عابرة من وعيه وذاكرته إلى المتلقي، لتأكيد هيمنتها التعبيرية. حيث المعنى يخوض في التعبير عن مفهوم الفكرة وإيحاءاتها او تكويناتها، إذ تتحول الوثائق من تأريخيتها ومن محتواها ومن ماضيها لتكون شاخصة، حاضرة بوجودها كحوارية متأرجحة، يجسد بين ثناياها ملامح السرد البصرية، فهو لا يُخضع العمل الفني الى تسلسل هرمي أو ترتيب تناغمي، إنما نجد الهارمونية اللونية والشكلية هي من يجعل من البعد الحسي تناغمي تصاعدي، بصورية تخيلية ومتلازمة، من خلال دمج العناصر وموادها المختلفة، حيث حضور الأحبار الطاغي في غالب أعماله والتي يريد أن يؤكد من خلالها انسيابية وسيولة (مصائر الحكايات وحكايات لم تحكى بعد) وهي عناوين لسلسلة من بعض أعماله، بسيولة المادة وتكويناتها، فيُكوُن بذلك نصوص بصرية بين التأمل والإدراك.
يستفزنا التدقيق في جسد شخوصه ومراقبة الملامح الغائرة في التكوين الكلي، فالانفعالات تستنطق لغتها من محاولة استقراء الطرس التي انتقلت من تأريخيتها الى بحث عن الفعل دون غائيته التكاملية، فهو يحذف ويشطب ويضيف ويركب بحسب ما يقتضيه العمل التشكيلي، فيلاحق الأثر الحسي باختراق بصري، بمحاولة منه لدفع المشاهد لأعماله لتلمس اللامرئي، من خلال الخطوط والجمل المبتورة والشخوص وما يحيط بهم من علامات والتي يحيلها من هلاميتها ووضعها الغارق في التلاشي الى حس وصوت معبر ، نجده عندما يرسم المدينة، مدينته، نلحظ الثقوب تحيط بها، وهذا بمثابة تجسيد لحالة الدمار التي حلت في بغداد مدينة الفنان، حيث الحروب المتلاحقة والمتناسلة.
في كتابه عن علم الجمال «Aesthetics” يقول «Alexander Gottlieb Baumgarten” ((الفن هو أن أرى العالم على نحو ما أنا عليه، لا على النحو الذي عليه العالم، والفنان هو من يمنحنا عيوناً نرى بها العالم)). وهذا ما يفعله الفنان كريم سعدون في أعماله الفنية حيث يجسد ذاكرته كمكون سردي تشكيلي لما حدث ويحدث، فهو يرينا او يخبرنا بقصدية لا تخلو من العفوية أو العكس، عن صورة الصراع المحتدم لكل العلائق وتجاذباتها أو تنافرها، وحتى في إخضاع الشكل لآليات الطرس، من أجل تجلي المضمون او العكس أيضاً، بتجريد معبر عالي يخدم المحتوى الجمالي للعمل.
أعمال كريم سعدون تقودنا للتمعن في أسئلة شاخصة أراد لها أن تنمحي لكنها ظلت عالقة وحاضرة، تبحث عن أجوبة، وعندما تأتي هذه الأجوبة من خلال خطوطه وشخوصه، تأتي متدفقة في بقع لونية وكلمات مثقوبة أو أرقام غائرة حول المتن والهامش، يأتي الكثير منها متمثل بالطرس وهلاميته، حيث التلاشي والشطب حد الاختفاء وضياع ما تبقى من الجواب.
إنه يعمل على دمج اللون مع عناصر السطح واشتغالاته على تنام الشكل الدلالي، حيث اننا نلاحظ سعيه لإجراء التوافق بين الشكل المراد حضوره وبين الحكاية التي يعكسها الواقع أو المتخيلة بتماثل تراكيب الرؤية الفنية للشكل العام والنهائي للعمل الفني، مكوناً بذلك مساحات وكتل بصرية يهيكلها بأبعادها الفلسفية فنيا وتقنيا والتي تحمل رمزية التآلف والتنافر في آن واحد بين المدرك واللامدرك، فهو يحرك شخوصه بين فضاءات العمل الفني من خلال التركيب الذهني كاستفزاز للذاكرة، ذاكرته هو وذاكرة المتلقي معاً.
جميع التعليقات 1
حسين ثامر بداي
تحية محبة واعتزاز ان اخراج الموضوع رائع جدا وجميل والفنان كريم سعدون مبدع ومتميز وانا سعيد بإنجازه الفني شكرا لصحيفتنا الحبيبة المدى تحياتي للأصدقاء والزملاء حسين ثامر بداي