TOP

جريدة المدى > عام > الضــوء والـعـتـمـة فـي شـعـر نـيـلــس هـــاو

الضــوء والـعـتـمـة فـي شـعـر نـيـلــس هـــاو

نشر في: 23 مارس, 2021: 09:32 م

فاضل العزاوي

رغم أننا كنا قد قرأنا شيئاً من الأدب الدنماركي، حتى بدون أن نعي ذلك تماماً، حين كنا لا نزال تلاميذ في المدرسة من خلال قصص هانس كريستيان أندرسن (1805 ـ 1875)

التي ملأت طفولتنا بالسحر والجمال، وأخذنا فيما بعد بشعرية نثر كيركجارد الذي أثار اهتمامنا به وبرؤاه الفلسفية جان بول سارتر بالذات، فإن الأدب الدنماركي، وخاصة الشعر، ظلّ قارة مجهولة بالنسبة للقارئ العربي.

لم يكن هذا غريباً جداً، فالشعر الدنماركي الحديث ما زال يجاهد ليشق طريقه بصعوبة حتى الى لغة مثل اللغة الانكليزية. ولكن هذا التحدي الذي يواجه الشعر الدنماركي الحديث لم يجعله أكثر عزلة عن تجارب الحداثة الشعرية التي يعيشها العالم، فالمجتمع الدنماركي الحديث يمتلك سمعة كونه الرائد بين كلّ المجتمعات الغربية في ما يتعلق بثقافة قرّائه ودعم مجالسه المحلية للفن والأدب، فضلاً عن الإصدارات الكثيرة من الكتب والمجلات. كما لا تكاد تجد كاتباً أو شاعراً دنماركياً لا يتحدث بلغة أو أكثر من لغة أخرى، وهو ما جعل النخبة الثقافية أشدّ تماسّاً بروح زمنها وأكثر بعداً عن الانغلاق على ذاتها.

ولكن هذا الجليد بدأ يذوب أخيراً، حيث صدرت في الأعوام القليلة الماضية مجموعات عدة لشعراء دنماركيين بارزين باللغة الانكليزية، مثل هنريك نوردبرانت في عمله “حياتي، حلمي”، بيا تافدراب في “مدّ وجزر” و”بوابة الملكة”، إنغير كريستينسن في «It»، و”ألفباء” ونيلس هاو في ديوانه المتميز “نحن هنا” الذي ضمّ مختارات من إثنين من دواوينه الخمسة المنشورة وهما «Grundstoff Element» (عنصر المادة الأساسية) الصادر عام 2004 و”حين أصير أعمى” الصادر عام 2005. وكان قد قام بترجمته الى الانكليزية كلّ من باتريك فريسين وب. ك. براسك وصدر في كندا، وهو ديوان جعل الناقد فرانك هاغاس يصف الشاعر نيلس هاو في مجلة “ليتراري ريفيو” بأنه أحد أكثر شعراء الدنمارك الأحياء موهبة. وفي الحقيقة، فإنه ربما كان الأكثر وعياً بأهمية الحساسية الشعرية الجديدة التي تغترف كلّ مادتها من الواقع الحي ثم تعيدها إلينا بعد أن تكون قد مرّت بمصفاة ذاته الشعرية التي تعرف كيف تفصل الذهب من التراب. فهو رغم ابتعاده، كما كان قد أعلن عن ذلك في مقابلة أجراها معه محمد سعيد الريحاني، عن المدرسة اللغوية السائدة في الشعر الدنماركي على غرار المدرسة اللغوية الأميركية، حيث تتحول القصيدة الى ما يشبه اللعب باللغة، فانه يعتبر في الحقيقة الأكثر قرباً من الشعر الأميركي في اتجاهه العام الأكثر إلتصاقاً بجوهر الحداثة والذي يقوم على كلّ العناصر التي نجدها في قصيدة نيلس هاو: البساطة، المباشرة، الإقتصاد في اللغة والتخلّص من الترهّل اللغويّ، الفكاهة والسخرية التي غالباً ما تتخذ شكل السخرية من الذات، وأخيراً قصيدة الفكرة التي تنتظم كلّ القصيدة وقصيدة الروي أو الحكاية والإشتغال على المجاز.

*

في صيف العام 2009 فيما كنت أشارك في مهرجان استانبول الشعري العالمي التقيت نيلس هاو في بار الفندق الأنيق الواقع في الجانب الأوروبي من المدينة، حيث اعتدنا السهر فيه، أحياناً حتى الثانية أو الثالثة صباحاً، مع عدد من الشعراء المدعوّين، بينهم شعراء كبار كنت قد تعرفت عليهم قبل ذلك في مناسبات سابقة: الشاعرة الروسية الشابة انجلينا بولونسكايا التي هجرت زوجها هاربة الى أميركا الجنوبية، ومع ذلك ظلّ ينتظر عودتها دائماً في موسكو، الشاعرة والممثلة الهولندية الرائعة أستريد لامبه التي كانت قد جاءت بصحبة أحد أزواجها هذه المرة، على حدّ قولها، والتي ظلّت تروي لنا القصة بعد الأخرى عن والدها العاشق المتأنق، ذي العين الزجاجية، والذي هجر أسرته، هارباً مع عجوز فرنسية ثرية أوكلت إليه مهمة اصطحاب كلبها للنزهة كلّ يوم، فانتقمت منه بناته ذات مرة، وكان كما يبدو على موعد مهم، بأن سرقن عينه الزجاجية التي كان قد نزعها وأخفينها فراح يبحث عنها بلا طائل. وكان هناك أيضاً الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس، المسؤول الأول عن مهرجانات برلين الأدبية العالمية، والشاعر المعروف برايتن برايتانباخ الذي كان قد أمضى ثمانية أعوام في سجون النظام العنصري في جنوب إفريقيا، والشاعر الفرنسي فيليب بيك الذي ظلّ يؤكد لي أن سارتر لم يكن يتقن الكتابة وأن كامو أفضل منه بكثير.

وسط هذه الشلّة من الشعراء الأصدقاء تعرفت على الشاعر نيلس هاو الذي اشتركت معه في أكثر من قراءة شعرية، من بينها قراءة على متن سفينة كبيرة مخرت بنا عباب البسفور. أتذكر أنه ألقى في إحدى هذه القراءات قصيدة جميلة بعنوان “نساء كوبنهاغن” وأخرى “دفاعاً عن الشعراء” وهما قصيدتان يتضمنهما هذا الديوان، قصيدتان مليئتان بالمرح والفكاهة، مع الكثير من الفطنة الشعرية. ولعلّ ما أثار اهتمامي بقصائد نيلس هاو حينذاك هو لغته البسيطة والتقاطاته الذكية للعابر الذي يعرف كيف يحوّله الى ما يشعّ بالشعر من خلال لمسة تجعله باهراً ومفاجئاً ومستمرّاً في الزمن. والأكثر من ذلك هو أنه شاعر يتّقد بالنشاط والحماسة ويبدو شاباً في أواسط الأربعين، رغم أنه قد تجاوز الآن الستين من عمره. وفي لقاءاتنا تلك روى لي أنه يعرف بعض الشعراء العرب الذين يعيشون في كوبنهاغن وأن بعض قصائده كان قد تُرجم الى اللغة العربية أيضاً. وحينما عدت الى برلين تلقيت منه العديد من قصائده المترجمة الى الانكليزية والعربية، مع بعض المقابلات والمقالات المكتوبة عنه، مما سهّل عليّ مهمة التعرف على تجربته الشعرية التي تجعل منه شاعراً متميزاً وصوتاً قوياً في حركة الشعر الدنماركي والاسكندنافي. ولذلك سررتُ جداً عندما اتصل بي الصديق الشاعر العراقي جمال جمعة ليبلغني بأنه ترجم ديواناً كاملاً للشاعر نيلس هاو الذي يستحق فعلاً أن يطلع القراء العرب على تجربته الغنية والمثيرة في الشعر. وبالفعل أنجز جمال جمعة ترجمة ممتازة لقصائده، ملتقطاً بحسّه الشعري كلّ البساطة المقرونة بالدقّة اللغوية التي يملكها نيلس هاو في شعره.

*

عنوان الديوان نفسه “حين أصير أعمى” يوحي لنا بالكثير الذي يضمره شعر نيلس هاو. عماه هنا ليس سوى لعبة يمارسها مع العالم، تمنحه الكثير من المتعة حين يكون محاطاً بحورياته اللواتي يشعرن بنفس غبطته في الظلمة المحيقة به، حيث يرى ويقتنص صيده بكلّ حاسة من حواسه حتى إن أخطأ في الترتيب. ولكنه يختنق حين يزاح المنديل عن عينيه فلا يعود أعمى، مصدوماً بالضوء الذي يعميه للحظة. فكرة الذي يرى في العتمة ويعميه الضوء فكرة صوفية، ذات أصول عربية شرقية، حتى أننا نسمّي الأعمى في الثقافة العربية “بصيراً”. وفي الميثالوجيا الإغريقية كانت العرّافات دائماً عمياوات. وفي بعض الأساطير الدينية العربية، تكون المعرفة التي يمكن أن يرمز لها بالضوء قاتلة وهي قد تعني العماء أيضاً حين تكون مفرطة. ولكن نيلس هاو يخلط كلّ ذلك في الأغلب بالفكاهة والسخرية من نفسه:

الحبّ يُعمي،

لكن الجنس لا يضير: بصري لا عيب فيه،

يمكنني رؤية كلّ شيء.

لهذا السبب قصائدي الغراميّة فاشلة جدّاً.

كلّ هذا لامسه نيلس هاو بقصائده عن العتمة والضوء بعفوية الشعر نفسه، ولكن ما تقصّده هو أن يجعل من قصائده مديحاً واحتفاء بسلسلة من المبدعين الكبار في تاريخ البشرية كلها: بورخس الذي سجّل كتاب الحياة على الرمل واخترع قصصاً عن مؤلفين وكتاب لم يوجدوا أبداً، هوميروس الأعمى الذي رأى مع يولسيس ما لم يره إنسان من قبل وسمع معه غناء الحوريات الساحر على الساحل، ميلتون الشاعر الميتافيزيقي الذي التقاه بورخس في الفردوس المفقود، وأخيراً جيمس جويس الذي لم يصر أعمى تماماً ومع ذلك كتب ملحمة القرن العشرين في رائعته المعجزة “يولسيس».

مواضيع ديوان نيلس هاو لا تقتصر بالطبع على فكرة الضوء والعتمة فحسب، فكلّ ما كتبه نيلس هاو ينتمي الى تجاربه في الحياة، ودائماً من منظور إنسانيّ متطلّع نحو العدالة والحب والتسامح والاعتراف بالآخر وضد التمييز بين البشر، ولكن أيضاً من أجل مقاومة الشعور بالوحدة في قلوب الناس، فهو يستغرب كيف يمكن للإنسان أن يكون وحيداً في كوكب يقطنه ستة مليارات من البشر.

نيلس هاو صار في ديوانه هذا أعمى من الحب ليرى كلّ ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram