حيدر المحسن
كانت ساعات من الاحتضار النفسيّ قضيتها في درس الطبّ العدلي في المرحلة الرابعة من الدراسة. كان الأستاذ يقطع بالمنشار القفص الصدريّ لشابّ مقتول بطعنات خنجر في حادثة شجار. الغرض من التشريح معرفة سبب الوفاة، ذلك أن تقرير الطبّ العدلي تحتاجه المحاكم بكلّ صغيرة وكبيرة فيه. نظرات الطلاب والطالبات الذين كانوا يتابعون المشهد معي، والتي كانت متفرّدة بالحزن، ومليئة بالخوف والرهبة، ذكّرتني بقصيدة «ثيوذوتوس» للشاعر قسطنطين كافافيس:
«إذا ما كنت -حقاً- واحداً من الصفوة، فتدبّر كيف يبقى هذا الاختيار قائما، مهما كان ما نلته من مجد، ومهما علت بمدائحك الأصوات، ودفع بك المعجبون إلى روما، وانتخبوك هناك، مهما كان هذا أو ذاك، فلا فرحتك ستبقى، ولا زهوك بالانتصارات، ولا حتى ستشعر بأنك ذلك الإنسان الأرقى من سائر الناس، عندما يأتي إليك ثيوذوتوس، وأنت في الإسكندرية، برأس بومبي المسكين على طبق مدمّى”.
تمتاز قصائد كافافيس بنبرتها الخافتة، وبنبضها البارد، وبسكونية تملي على القارئ قناعة مفادها أن هذا البرود الذي يقرب القصيدة من جوّ الكتابة التسجيلية هو الوسيلة الوحيدة لجعل الواقع والحلم أمراً واحداً، والماضي والحاضر زمناً واحداً. بكلمات قليلة باردة يستطيع الشاعر إستعادة عصر موغل في القدم تعجزعن وصفه المجلدات الضخام في التاريخ.
كانت المذاهب السائدة في عصر كافافيس(1863-1933) هي الرومانسية، والرمزية، والبارناسية، لكنه لم يتأثر بأيّ منها، وجاءنا بمدرسة خاصة تحمل اسمه: الكافافية، على الرغم من الحجم القليل للآثار التي تركها. أشهر شعراء عصره, وهو بالماس، عدّ كافافيس بلاغتَه وجزالته ثرثرة لا لزوم لها لأنها تستعمل اللغة الحارة التي تستثير المشاعر وتحرّك العواطف لدى الجمهور، بينما الشعر في نظره ينبغي أن يكون محايداً، ويسكن المنطقة الوسطى بين الذهن والوجدان، وهي المساحة الوحيدة القادرة على توفير فسحة الحرية التي يتطلبها عمل الشاعر. بل إن النقّاد كانوا يعيبون عليه اختيار الأبطال المهزومين دون غيرهم، منطلقين من شعور قوميّ كان يعجّ به الشعر اليوناني الذي يمجّد الماضي. بينما جاءت قصائد كافافيس، بما فيها أشعار اللذة الجسدية، تتنفس هواء فيه نبرة قدرية كسيرة تتسلل إلى القلب لا يمكن استعمالها مع الأبطال المنتصرين الذين خصّهم التاريخ بأشعار الفخر، والذين تجاهلهم الشاعر عن دراسة وتفكير.
كيف يمكن لشاعر لم يغادر مدينته الإسكندرية أن يحدس مسارات الشعر مستقبلاً؟ موظف بسيط في دائرة الري مرتّبه سبعة جنيهات أنّى له أن يدرك أن أصوات الحماسة العالية سوف تنحسر، ويخلو الشعر في المستقبل للأصوات الخفيضة، الباردة، الحدسية؟
كنت أنظر في تلك الساعة إلى نفسي، وإلى الطلاب والطالبات، ومعنا الأستاذ الغارق في عمله. كنت أتأمل كل شيء، وأفكر مع نفسي، وأعيش جوّ القصيدة:
«فلا تعوّل على أن في حياتك المنظمة، المحدودة، العادية، لا تحدث مثل هذه الأشياء المرعبة. فلربما كان لك في هذه الساعة ذاتها، جار، وفي بيته المرتّب يدخل ثيوذوتوس خفية، كطيف لا يراه أحد، ويخرج حاملاً رأساً مثل ذلك الرأس المخيف”.
يتحول التاريخ بفعل لمسة الفن الى عمل رمزي يتعدى إطار الزمن، وهكذا تكون قصيدة “ثيوذوتوس” مقروءة الآن، وتحتمل ذات التأويل الذي قصده الشاعر. إنه التوجس من كل ما يجري في الحياة الراهنة بسبب البؤس المبذول في كل مكان والمستقبل غير المضمون للجميع دون استثناء. الأهم لدى الشاعر هو انشغاله بنمط من النبل الإنساني يتقبل المأساة والفجيعة والشعور بالعار، عندما تنقلب الأقدار يمكن أن يحدث لي ما جرى لك، وفي هذا المحتوى يكمن ثراء الظاهرة الكافافية التي تؤمن بالأنوية الجمعية في الشعر، وهو ثراء فريد تصير معه الحياة الإنسانية في زمن المأساة أكثر تكاتفاً، وأقلّ مشقة.
جميع التعليقات 1
كريم سعدون
روعة واهنئك دكتور حيجر، استمتع جدا في اختياراتك الموضوعة وانسيابية الكتابة المدهشة ، سيطرة جميلة على مسارها والتنقلآت فيها، سلمت يداك