TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: ثيوذوتوس

كلامٌ عاديٌّ جداً: ثيوذوتوس

نشر في: 23 مارس, 2021: 09:34 م

 حيدر المحسن

كانت ساعات من الاحتضار النفسيّ قضيتها في درس الطبّ العدلي في المرحلة الرابعة من الدراسة. كان الأستاذ يقطع بالمنشار القفص الصدريّ لشابّ مقتول بطعنات خنجر في حادثة شجار. الغرض من التشريح معرفة سبب الوفاة، ذلك أن تقرير الطبّ العدلي تحتاجه المحاكم بكلّ صغيرة وكبيرة فيه. نظرات الطلاب والطالبات الذين كانوا يتابعون المشهد معي، والتي كانت متفرّدة بالحزن، ومليئة بالخوف والرهبة، ذكّرتني بقصيدة «ثيوذوتوس» للشاعر قسطنطين كافافيس:

«إذا ما كنت -حقاً- واحداً من الصفوة، فتدبّر كيف يبقى هذا الاختيار قائما، مهما كان ما نلته من مجد، ومهما علت بمدائحك الأصوات، ودفع بك المعجبون إلى روما، وانتخبوك هناك، مهما كان هذا أو ذاك، فلا فرحتك ستبقى، ولا زهوك بالانتصارات، ولا حتى ستشعر بأنك ذلك الإنسان الأرقى من سائر الناس، عندما يأتي إليك ثيوذوتوس، وأنت في الإسكندرية، برأس بومبي المسكين على طبق مدمّى”.

تمتاز قصائد كافافيس بنبرتها الخافتة، وبنبضها البارد، وبسكونية تملي على القارئ قناعة مفادها أن هذا البرود الذي يقرب القصيدة من جوّ الكتابة التسجيلية هو الوسيلة الوحيدة لجعل الواقع والحلم أمراً واحداً، والماضي والحاضر زمناً واحداً. بكلمات قليلة باردة يستطيع الشاعر إستعادة عصر موغل في القدم تعجزعن وصفه المجلدات الضخام في التاريخ.

كانت المذاهب السائدة في عصر كافافيس(1863-1933) هي الرومانسية، والرمزية، والبارناسية، لكنه لم يتأثر بأيّ منها، وجاءنا بمدرسة خاصة تحمل اسمه: الكافافية، على الرغم من الحجم القليل للآثار التي تركها. أشهر شعراء عصره, وهو بالماس، عدّ كافافيس بلاغتَه وجزالته ثرثرة لا لزوم لها لأنها تستعمل اللغة الحارة التي تستثير المشاعر وتحرّك العواطف لدى الجمهور، بينما الشعر في نظره ينبغي أن يكون محايداً، ويسكن المنطقة الوسطى بين الذهن والوجدان، وهي المساحة الوحيدة القادرة على توفير فسحة الحرية التي يتطلبها عمل الشاعر. بل إن النقّاد كانوا يعيبون عليه اختيار الأبطال المهزومين دون غيرهم، منطلقين من شعور قوميّ كان يعجّ به الشعر اليوناني الذي يمجّد الماضي. بينما جاءت قصائد كافافيس، بما فيها أشعار اللذة الجسدية، تتنفس هواء فيه نبرة قدرية كسيرة تتسلل إلى القلب لا يمكن استعمالها مع الأبطال المنتصرين الذين خصّهم التاريخ بأشعار الفخر، والذين تجاهلهم الشاعر عن دراسة وتفكير.

كيف يمكن لشاعر لم يغادر مدينته الإسكندرية أن يحدس مسارات الشعر مستقبلاً؟ موظف بسيط في دائرة الري مرتّبه سبعة جنيهات أنّى له أن يدرك أن أصوات الحماسة العالية سوف تنحسر، ويخلو الشعر في المستقبل للأصوات الخفيضة، الباردة، الحدسية؟

كنت أنظر في تلك الساعة إلى نفسي، وإلى الطلاب والطالبات، ومعنا الأستاذ الغارق في عمله. كنت أتأمل كل شيء، وأفكر مع نفسي، وأعيش جوّ القصيدة:

«فلا تعوّل على أن في حياتك المنظمة، المحدودة، العادية، لا تحدث مثل هذه الأشياء المرعبة. فلربما كان لك في هذه الساعة ذاتها، جار، وفي بيته المرتّب يدخل ثيوذوتوس خفية، كطيف لا يراه أحد، ويخرج حاملاً رأساً مثل ذلك الرأس المخيف”.

يتحول التاريخ بفعل لمسة الفن الى عمل رمزي يتعدى إطار الزمن، وهكذا تكون قصيدة “ثيوذوتوس” مقروءة الآن، وتحتمل ذات التأويل الذي قصده الشاعر. إنه التوجس من كل ما يجري في الحياة الراهنة بسبب البؤس المبذول في كل مكان والمستقبل غير المضمون للجميع دون استثناء. الأهم لدى الشاعر هو انشغاله بنمط من النبل الإنساني يتقبل المأساة والفجيعة والشعور بالعار، عندما تنقلب الأقدار يمكن أن يحدث لي ما جرى لك، وفي هذا المحتوى يكمن ثراء الظاهرة الكافافية التي تؤمن بالأنوية الجمعية في الشعر، وهو ثراء فريد تصير معه الحياة الإنسانية في زمن المأساة أكثر تكاتفاً، وأقلّ مشقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كريم سعدون

    روعة واهنئك دكتور حيجر، استمتع جدا في اختياراتك الموضوعة وانسيابية الكتابة المدهشة ، سيطرة جميلة على مسارها والتنقلآت فيها، سلمت يداك

يحدث الآن

(المدى) تنشر نص قرارات مجلس الوزراء

لغياب البدلاء.. الحكم ينهي مباراة القاسم والكهرباء بعد 17 دقيقة من انطلاقها

العراق يعطل الدوام الرسمي يوم الخميس المقبل

البيئة: العراق يتحرك دولياً لتمويل مشاريع التصحر ومواجهة التغير المناخي

التخطيط: قبول 14 براءة اختراع خلال تشرين الثاني وفق معايير دولية

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram