علي حسين
في الثالثة والخمسين ، وخلفه " 25 " كتاباً ، قال إنه لن يهنأ قبل أن تتجاوز عدد كتبه سني حياته ، يخلط الفلسفة بتجارب الحياة ،
كتب عن اللغة والتاريخ والكتب ، والفتاوى الطبية ، وفلسفة الطعام التي يرى أنها تحكمنا : " لا يوجد شيء أساسي أكثر من الحاجة إلى تناول الطعام والشراب". في كتابه الأخير " دليل الحياة " الذي كتبه بالاشتراك مع عالمة النفس " انطونيا ماكارو" وصدر أثناء جائحة كورونا يخبرنا أن الانسان منذ بداية الزمن وهو يطرح أسئلة حول كيفية العيش في ظل الفجيعة والحظ والإرادة الحرة . وبرغم كل هذه الكتب لا يزال يتمنى أن يصبح كاتباً ،
مارس الكثير من الأعمال ، لكنه يستمتع بعمل مسؤول طهاة في مطعم .. يقول إنه وقع في حب الفلسفة وهو في الثانية عشرة من عمره ، عندما وجد في مكتبة المدرسة كتاباً عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ، لم يفهم منه شيئاً ، لكن ذلك الكتاب المعقد حفزه للبحث عن كتب أخرى ، بعد ثلاث سنوات سيعثر على الدليل ، إنه الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد ، وفجأة يقع في حب الفيلسوف الوجودي ليصاحبه في رحلته الفلسفية :" لم يكن كيركغارد بمثابة واحة في تلك الصحراء، بل عاصفة رعدية تثير العواصف في قلبها " .
يقول جوليان باجيني الذي وضع كتاباً بعنوان مثير " حجج فاسدة تجعلنا نبدو أغبياء " – ترجمه الى العربية عماد صبحي - إنه لم يقرأ كيركغارد كنصوص فلسفية ، وإنما كان يتخذ منه صديقاً يشاركه الحديث عندما يختلي مع نفسه ، ذات يوم سيطرح سؤالاً على كيركغارد المتخيل : من نحن وهل يمكن للإنسان الاستمرار بالقول إن له شخصية ؟ ، ونجده بعد سنوات يجيب في كتابه " هل تحكم على الكتاب من عنوانه – ترجمته الى العربية هبه الشايب - قائلاً :" يمنحنا العقل البشري نماذج أو إمكانيات لنكون أي شيء في أي وقت ، كان في الثانية عشرة من عمره حين سمع بوفاة جان بول سارتر ، لم يكن قد قرأ شيئاً لصاحب "الوجودية فلسفة إنسانية " فأشار عليه أحد زملائه في المدرسة أن يقرأ رواية سارتر " الغثيان " سحرته شخصية " روكنتان " وتمنى أن يعيش مثله متمرداً على الحياة ، قال لوالده إنه يريد أن يجرب الحياة من خلال العمل ، عمل في عدة مهن بسيطة .. كتب قصص قصيرة كان يرسلها الى الصحف وينتظر نشرها من دون طائل ، غطى جدران غرفته بصور فلاسفة الوجودية كيركغارد ، هايدغر ، سارتر ، نيتشه ، ومعهم فيلسوفه المحبوب ديفيد هيوم . كتب مؤخراً ، أنه تمنى لو عاش فترة إغلاق كورونا مع الفيلسوف الأسكتلندي العظيم ديفيد هيوم ، وكان يحلم أن يتناول الطعام من يديه ، فقد عرف عن هيوم عشقه للطبخ ، وقد جرب باجيني أثناء الغلق صنع وصفات غذائية كان يقوم بها ديفيد هيوم . قال إن بوذا كان أول فيلسوف وجودي :" لقد آمن بوذا أننا لا نمتلك جوهراً ثابتاً لا يتغير ، ونحن بالأحرى مجموعة خبراتنا " ، ركزت الفلسفة البوذية على ضرورة كشف القناع المزيف عن الحياة ، في مكتبه يضع أمامه عبارة كونفوشيوس : " لا تفعل للآخرين ، ما لا تريد أن تفعله لنفسك " ، كتبت عنه الغارديان بانه فيلسوف يستحيل التوقف عن قراءته . يعترف بانه يكتب في كل شيء ابتداءً من البطة التي ربحت اليانصيب ، وليس انتهاءً بمناقشة موضوعة الإلحاد . بلغت مبيعات كتبه أرقاماً قياسية ، وسخر من النقاد الذين ظنوا أنه تحمس للفلسفة ليعيل نفسه.
ولد جوليان باجيني في التاسع عشر من حزيران عام 1968 في مدينة فولكستون التي تقع شرقي انكلترا واشتهرت بانها مدينة تضم ميناء كبيراً ، جاء والده من ايطاليا في نهاية الخمسينيات ليعمل نادلاً في أحد الفنادق ، هناك سيلتقي بفتاة يرتبط معها بعلاقة حب ليتزوجها بعد سنوات ، كان والده يحدثه عن جمال النظرة الأولى عندما شاهد والدته ، وما تعنيه تلك النظرة بالنسبة له ، قال إن أحاديث والده الممتعة جعلته يتمعن النظر الى الأشياء من حوله .. في السادسة من عمره أدرك أنه لن يتمكن من كسب صحبة أقرانه في المدرسة الذين كانوا يسخرون من هذا الصبي الذي يسأل كثيراً ، وينتظر إجابات حاسمة على أسئلته ، ، أصغر أبناء الاسرة الذي حاولت أمه أن تربيه بصرامة دينية ، لكن الأب وجد أن أطفاله يجب أن يعيشوا حياتهم من دون خوف وتعاليم تقيد نموهم الطبيعي ، اكمل دراسته الأولية في مدرسة هارفي . عام 1990 يحصل على الشهادة من جامعة ريدنغ ، ينتقل بعدها الى لندن لإكمال دراسته ليقدم عام 1996 أطروحته للدكتوراه بعنوان " فلسفة الهوية الشخصية " ، والتي ستنشر بعد خمسة عشر عاماً بعنوان " ماذا يعني أن تكون أنت ؟ " . عام 1997 يشارك في تأسيس المجلة الفلسفية مع مجموعة من أساتذة الفلسفة وعلم النفس وسيكون شعارها " استعادة الفلسفة " ، يصدر عام 2002 أول كتبه بعنوان " الفلسفة .. موضوعات مفتاحية " عرف النجاح سريعاً من خلاله ، الأمر الذي دفع الناشر لأن يطلب منه كتاباً جديداً ، لكنه في هذا العام سيلحق كتابه الأول بثلاثة كتب " الفلسفة وراء العناوين " و " أدوات الفيلسوف " و" الفلسفة البريطانية الجديدة " ، وفي هذه الكتب يؤكد باجيني أن الفلسفة تتساءل عن كل شيء ولا تدعي صحة أي شيء .. وسيعود في هذه الكتب الى ملهمه بوذا ، مؤكداً أن الفلسفة البوذية تتماشى بشكل ملحوظ مع الأبحاث المعاصرة حول الذات :" لقد آمن بوذا أننا لا نمتلك جوهراً ثابتاً لا يتغير، ونحن بالأحرى مجموعة خبراتنا الجسدية ، وأفكارنا ومشاعرنا " . يعترف باجيني أن رؤية الذات يعد تحدياً للانسان ، فهو يفترض أنه ليس هناك إحساس حقيقي بالذات :" لأن الكثير من الأشياء التي نعتبرها حقيقة هي عبارة عن إنشاءات " ، فكل شيء مكون من الأجزاء الصغيرة التي تؤكد حقيقة قوته :" الانترنيت ليس شيئاً واحداً بل هو شبكة ، والشجرة هي مجموعة من ملايين الذرّات " .. ويستشهد بالشاعر الاميركي والت وايتمان الذي كتب " أنا واسع جداً واحتوي الجموع " .
في الأشهر الأخيرة والعالم تحت قبضة جائحة كورونا كتب باجيني :" أليس معنى الحياة هو اللغز الأكثر عمقاً ومراوغة ، والذي لا يعرفه حتى أعظم العقول؟ من المؤكد أن أي شخص يخبرك أن لديه الإجابة هو يمزح أو مجنون أو ببساطة مخطئ " .
عاش مع فايروس كورونا قبل أن يصبح هذا المرض قصة إخبارية ، ففي نهاية عام 2019 ، اصيب بانفلاونزا حادة اجبرته أن يدخل العناية المركزة وان يوضع تحت جهاز التنفس . فقد شهيته للطعام ، وشعر ان نهايته اصبحت قريبة ، لم يكن الاطباء يعرفون سبب هذا الالتهاب الرئوي الحاد ، لم يكن هناك اختبارا لفايروس كورونا في بريطانيا في تلك الفترة ، يخرج من المستشفى بعد عشرة ايام ، لم يطلب منه الاطباء عزل نفسه ، يسأل نفسه بعد أن أصبح الفايروس حقيقة يتحدث عنه الجميع : "هل كنت ضحية هذا الفايروس قبل أن يطل برأسه في بريطانيا ؟ " .. فيما بعد سيجد نفسه يقف في طابور طويل لانتظار اختبار فايروس كورونا ، كتب معلقاً على هذا الموقف أن طوابير الانتظار الطويلة وحالة الهلع التي أصابت الناس ، تثبت أن حضارتنا هشة جداً ..في أيام الاغلاق كان ضيفاً مرحباً به في الكثير من مواقع اليوتيوب والصحف يناقش الأزمة التي تمر بها البشرية ، كتب مقالات قصيرة للغارديان وفاينانشال تايمز ، قال إنه محظوظ لأن عمله لا يتطلب الاختلاط كثيراً بالناس ، لكنه يشعر أنه افتقد حياته القديمة : " اكتشفت مدى ضحالة الكثير مما نفضّله. حينما تقلَصت خياراتي واستوجب الفعل قدراً أكبر من التخطيط، أصبحت الخيارات أكثر أصالة لما تحتَّم أن تكون نتاج مزيد من التفكير " .
يكتب في مقال بعنوان " فضل كورونا على فهمنا للحرية " – ترجمه الى العربية أحمد شافعي – إن الوباء مكّن الإنسان من أن يرى بمزيد من الوضوح الفارق بين الحرية الجوفاء ( حرية الفعل حين لا يعوقها عائق ) ، والحرية الحقَة (حرية الفعل بما يتماشى مع الحكم القائم على مراعاة جميع الاعتبارات ) ، ونراه يؤكد أن الاغلاق جعل الناس تميز بين " الأشياء التي نريدها وحسب، والأشياء التي نريد ـ بعد تدبر ـ أن نريدها " ، يتذكر جان بول سارتر ومفهومه للحرية ، كان الفيلسوف الوجودي الشهير قد كتب أثناء الاحتلال النازي لفرنسا : " لم نكن يوما أكثر حرية مما كنا عليه تحت الاحتلال الألماني " . يقول باجيني إن الحرية كانت واحدة من أكبر ضحايا فايروس كورونا ، ويذهب باجيني الى نفس الغرض الذي توصل اليه سارتر عام 1944 ، من أن منعنا من الفعل يجعلنا ندرك أتم الإدراك المدى الحقيقي لحريتنا وطبيعتها الحقة. ولهذا فالوباء حسب رأي باجيني هوفرصة " لنتعلم من جديد ما معنى الحرية " ، كتب سارتر أثناء الاحتلال النازي :" عشنا في كل لحظة، حتى الثمالة " ولهذا يرى جوليان أن الخيار الذي يتخذه الانسان بشأن حياته ووجوده كان خياراً أصيلاً إذ اتخذ في ظل مواجهة مباشرة مع الموت " ومع تعمقه بموضوعة الحرية يؤكد أن الوباء يعلمنا دروساً في الحرية تتجاوز نقاش سارتر حول حرية الفرد :" لست أساوي بين الحياة في ظل الاحتلال النازي ، والحياة في ظل بلاء كوفيد 19. لكن برغم الاختلافات الكثيرة والمهمة، تبقى رسالة الحرية التي بعثها سارتر سنة 1944 صادقة اليوم بقدر صدقها في زمانها. فتجربتنا الأساسية هي تجربة تقييد، وفقدان للحرية. لكن بالتفكير والتدبر يمكننا أن نتبع هذا الفهم الجديد لما تعنيه الحرية حقاً، ولماذا هي مهمة، وكيف يمكن أن نستعملها في صياغة مستقبل أفضل. ولعلنا عما قريب ننظر إلى الوراء قائلين مثلما قال سارتر: لقد ساعدتنا الظروف، والبشاعات، على أن نعيش، دونما ادعاء أو عار زائف، نعيش الوجود القلق المستحيل المعروف بقدر الإنسان " ، ويلاحظ باجيني أن مفهومنا للحرية يجب أن يتغير ، فحرية الفعل دونما إيمان باحتمالات الفعل إن هي إلا حرية فارغة. وهو يرى أن الفايروس فتح أعيننا على احتمالات جديدة للمستقبل غير التي كنا نؤمن أنها المتاحة لنا. والتحدي هو أن نستجيب لهذه الفرصة دون الوقوع في طوباوية ساذجة أو تفكير تفاؤلي :" فإدراكنا ليس إيمانا تبسيطيا بأن قيودنا أقل مما كنا نتصور، ولكن أن قيودنا الحقة ليست القيود التي كنا نتصورها " .
ونجد باجيني أكثر تفاؤلاً في قدرة العالم على تجاوز محنة الفايروس : " ما ينبغي أن نكون تعلمناه في 2020 هو أنه لولا الخدمات الصحية والتنظيم الفعال والقواعد الصارمة في بعض الأحيان، تصبح حريتنا السلبية عديمة القيمة بل ومدمرة في بعض الأحيان. ودون تدخل الدولة، كنا لنفقد قدراً أكبر بكثير من الأنفس، ونشهد ضياع وظائف وخراب مشاريع " .
في ظل الإغلاق العام كتب باجيني إن الإنسان يعيش الحياة من الداخل والخارج ، ولا يوجد شخص مهما كانت درجة قربه منا يستطيع أن يدخل فيها معنا بهذا المعنى نحن " منفردون " ، ولكن القليل هم من يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين ، ولأننا واقعون في شرك نفوسنا فغالبا ما نتطلع للخارج ونفتح نوافذ لبعضنا بعضا كي نتبادل الخبرات قدر المستطاع :" نحن حيوانات اجتماعية عامة ذات خيارات فردية ، قد لا نكون جُزرا ، لكن تظل هناك حدود بين كل نفس وغيرها لا يمكن تخطيها .
هل أن أزمة كورونا التي يمكن أن تقتل الإنسان ستجعله أكثر قوة .. يجيب جوليان باجيني متذكراً مقولة نيتشه الشهيرة " ما لا يقتلني يجعلني أكثر قوة ، حيث يرى أن لا فائدة ترجى من جراء اقتباس نيتشه من قبل شخص يمر بوقت عصيب ويتوقع أن تكون هذه المقولة عوناً له على اجتياز المحنة ويكون أكثر قوة مما كان ، فهذا يتطلب قوة إرادة وليست " إرادة نيتشه للقوة " :" الاعتقاد بأن المحن تقوينا فهم خاطئ لنيتشه لأن ما يقصده هو أن الأمر راجع لنا في كيفية تعاملنا مع المصاعب . ما لا يقتلك قد يجعلك أضعف إذا سمحت له بذلك " .
بعد مرور عام على انتشار الوباء يطالبنا جوليان باجيني أن نتعلم أن ضحايا جائحة كورونا ، هم أكثر من مجرد أولئك المتأثرين مباشرة بالمرض. الآن يمكننا أن نرى أنه ، للمفارقة ، يشمل العديد ممن لم يتأثروا بكل شيء.