موسى الخميسي من خلال انخراط الجابري في صلب الحركة الثقافية العراقية التي كانت تتصف بالمتانة والقوة في فترة السبعينيات اهلته بامتلاك القدرة على المناورة الثقافية المبكرة، وفتحت له الابواب لرؤية خلاصة الثقافة العالمية والجهد الانساني الذي يمتدد الى اعماق الحضارات العريقة الأخرى،
وهذا منحه القدرة على استيعاب اساليب المدارس التقليدية ومفاهيم الرسم السائدة، إضافة الى الرغبة في التغيير لكي يجد في رسم انفعالاته الذاتية حريته التي تساهم بعد ذلك في خلق اجواء التفاعل بين ما هو ذاتي طموح يحاول الافلات من القواعد الاكاديمية للرسم، وبين التجارب الجديدة التي يخوضها الاتجاهات الفنية العالمية التي اظهرتها حركة العروض الفنية العالمية.rnوقد انعكست هذه الرغبة مباشرة بعد فترة وجيزة على مغادرته الوطن في نهاية السبعينيات، ليحط رحاله في مدينة فلورنسا الايطالية عاصمة عصر النهضة، التي تضج بالحياة وتزدحم بالفنانين ودور العرض والقاعات الفنية التي تحتفل بمختلف الانشطة، كانت بالنسبه له بمثابة الحلم، وكانت ايضا البوابة العصية على العراقي القادم من الخارج الذي يريد اقتحامها برزقه وفنه فلجأ الى مواصلة ابداعه وليحول غربته الى مؤثر خارجي يقترب من انفعالاته، ليوظف المؤثرات الجديدة بتعامل جريء انعكس على سطوح العديد من الاعمال الصغيرة والتخطيطات التي انصبت في بداية الامر على عدد من المبادرات التجريبية، الا انه كان يعي ضرورة انشاء لوحة مطابقة تحاكي ما يختزن بداخله، فقرر ان تكون خطواته غير متعثرة وهو ينظر الى واحدة من مآسي عصره، وان يكون بتوجهه هذا بعيدا عن التلقائية التي تكون في معظم الاحيان قادرة على طمسه في التفصيلات التلقائية كما هو حال عدد كبير من زملائه العراقيين الذين عاشوا تجربتـه.وكان هذا التهديد مساعدا على صقل توازنه، فكان موضوع تهجير الاكراد ليصنع في مرحلة لاحقة تشكيلات ملونة تحمل ذاكرة شعب يجبر على الاقتلاع عن ارضه. ولم تكن التجربة الاولى،، الا انها كانت الاساس الذي شيده لما لحقها من موضوعات وتطلعات مزدوجة ظلت حتى يومنا هذا ذات علاقة يتبناها في العديد من اعماله اللاحقة.كان يمارس الضغط على عمله الفني ويعرضه لرحمة المشتقات الفنية، ويعاود التذكير بما يسبق الارتجال. مرحلة (التهجير) التي استمرت نحو عشر سنوات هي تجربة انطلاق، يمكن وصفها بانها مرحلة بناء اراد منها ايجاد مخرج للوحة من ضغوط كثيرة.وهذه التجربة التي نضجت بعد مغادرته الى اسبانيا ومنها الى المانيا للاستقرار النهائي، تسير بهدوء وبترقب، معتمدا على ذاكرته الصورية وعلى تلك الانفعالات في تشكيل بنائيات انشائية فتح من خلالها فضاء جديداً استفاد من خزائن زياراته المكثفة لعدد كبير من المعارض والمتاحف التي كان يزورها باستمرار، ومن معطيات كثيرة ومدارس محلية وعالمية متعددة بعضها تضرب مؤثراتها في اتجاه الموروث المحلي والعالمي، وينهل من الفنانين الايطاليين المعاصرين ومن المدارس الالمانية وعلى الخصوص مدرسة الجسر الازرق.الا انه اتاح لنفسه ان يكون متأملاً ومشاهداً ومتذوقاً وناقداً بعيدا عن المصادرة او الابتزاز.اعتمد الجابري في مجموعاته التي يمكن تسميتها بمرحلة( التهجير) على تقنية شكلية تعتمد على فصل الاشكال داخل سطح اللوحة بحافات حادة فاصلة..الطموح الدائب لبناء معرفة جديدة لموضع التهجير من خلال اللوحة ارجعه الى امكانية قادرا على مواصلته نبش الجرح برؤية مستبصرة تتسم في احيان كثيرة بالبساطة، الا انها تمتلك التعبير الاصدق والطموح لاعطاء قراءة متميزة لانسان تلك المعاناة التي اخذت اشكالا مختلفة وابعادا مختلفة، كما انه يقدم من خلالها برهاناً على تقديره لفنه وبحثه سواء في لوحة واحدة او في اعمال منفصلة تعد بالعشرات.نقلتنا لوحاته في تلك المرحلة الى مناطق كنا نألفها كموضوعات سياسية ولم تالفها اذواقنا ولا ابصارنا، اوجدتها ظروف اقل ما يقال عنها انها صعبة امتدت تاليها حواسنا وقوانا الروحية بطاقة خفية رسمتها البيانات والمقالات الصحفية وبعض الاحيان الصور الفوتوغرافية، جعلتنا جميعا داخل محطات الالم والمعاناة، الا انه من خلال بصيرته ووعية بمحنة شعبه الكردي المهجر، ومن خلال مقدرته الفنية في الكشف عن هذا الرعب، جعلنا اكثر اندهاشا واجذابا لمتابعة تلك اللوحات التي رسمها بالزيت وكانها امتلاك لتلك العوالم من البشر مليئة بالحركة جاعلا منها هدفا يشيع من خلاله رغبة مترسخه في كيانه تتمثل في حبه لهؤلاء البشر وكانهم مشهد عام عابر كل جزء فيه يحمل تاثيراً مباشراً على المشاهد..لوحاته تلك كانت تستهدف وضع المشاهد في حالة من حالات البحث والتقصي عن دلالاتها و المتجذرة في نصوصها المعلنة ، ففي كل لوحة من هذه اللوحات يلمس المرء ثمة تساؤلات ملحة وثمة خطاباً مفعماً بالاشارات يدفعنا دفعا الى متابعته ومحاولة فهم هذه المأساة الإنسانية تدفعه قدرة باهرة في التلاعب بالالوان فجعلها عوالم مرئية أكثر حساسية.
رحمن الجابري.. رسم مأساة الإنسان
نشر في: 21 مايو, 2010: 04:56 م