TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > على فكرة: مركزية ( التفضيل ) في الثقافة العربية

على فكرة: مركزية ( التفضيل ) في الثقافة العربية

نشر في: 29 مارس, 2021: 09:55 م

 د. أحمد الزبيدي

ينتظم الفكر من خلال منهجه، الذي يعكس الرؤية الإنتاجية والنظام العقلي؛ فالدراسة لفكر معين لا تتوضح ملامحها إلّا عبر المسك بتلابيب المنهج المؤسس للبنية الفكرية. ويبقى التساؤل الفلسفي : هل الحقيقة انعكاس للأشياء؟ أم بناء عقلي ؟ أم كشف ؟ أم ترجمة ؟ كما تساءل إدكار موران .

وإذا كان المنهج هو المساعدة على التفكير ذاتيّاً بما ينظم خطواته، فإنه ليس بمنعزل عن المرجعيات الثقافية المهيمنة في البنية المجتمعية؛ أعني المرجعيات التي تمتلك طاقة انتاجية للفكر، ومبلورة للثقافة بأسلوب تفاعلي واشتغال جدلي وحواري.. ودراسة ثقافة ما تنطلق من بنيتها النصية وخطابها عبر بنيتها اللغوية، لا بوصفها وعاءً للفكر فحسب، بل لكونها بنية فكرية بالدرجة الأولى .. إنْ نفكّر في اللغة هو تصور يختلف عن تصور أنْ نفكّر في اللغة .. ومن ثم تصبح اللغة بنية فاعلة في تمظهرات الثقافة وإطارها الفكري ..

حين نتوجه إلى الثقافة العربية القديمة من خلال مدونتها اللغوية فهل ثمة نسق منهجي يعكس الرؤية الإنتاجية للفكر العربي وثقافته ؟ وهل يمكن تلمس ذلك النسق باتجاهات فكرية متنوعة : دينية وأدبية وثقافية.. ونستذكر _ جميعاً _ التصورات الفكرية الرائدة لمحمد عابد الجابري وكشفه عن المركزيات العقلية العربية وتكويناتها وبنيتها: البيانية والاستدلالية والغنوصية واشتغالاتها في حقول معرفية وثقافية مختلفة .. أقول : أيمكن إيجاد نسق منهجي محدد في ثقافتنا يعكس الرؤية الفكرية وآلية تكوينها ؟ .. ترى ما الذي سيدور بذهننا لو تصفّحنا كتاب ( مجْمع الأمثال ) للميداني ( 518هـ ) ولماذا المثل تحديداً؟ لأن المثل، حسب قول الزمخشري ( هو قصارى فصاحة العرب وجوامع كلمها ونوادر حكمها وبيضة منطقها وزبدة حوارها وبلاغتها ) سنرى ، نصب العين ، كيف أفْرد الميداني للأمثال التي جاءت على صيغة ( أفعل ) باباً في كل حرف هجائي اعتمد تسلسله بمعجمه ( مجمع الأمثال ) ؟ ولِمَ تكاثرت الأمثال على هذه الصيغة ؟ ولمَ طفحت الكتب النقدية بالمفاضلة المعيارية سواء على المستوى الجمعي ( الطبقات ) أو الفردي : فهذا أهجا بيت قالته العرب وهذا أفخر قول وهذا أشنعه وذاك أغزله .. بل هذا أشعر شعراء زمانه وجدّه أسبقهم وأولهم أطلالًا .. وفي الدين : أتتفقون معي أن الثيمة الأكثر حضوراً في الصراع على الخلافة هي ( المفاضلة ) فهناك أولهم إسلاماً وأول من ضرب بسيفين وهناك المؤمن المكي الذي سبق المؤمن المدني .. من هنا نفهم أن الثقافة العربية القديمة ذات مركزية معيارية تقوم على المفاضلة التي جاءت نتيجة عوامل متسلسلة متناغمة ومترابطة ؛ فلو قلنا بالبعد الاجتماعي ذهبنا إلى النسق القبلي وهو يقودنا إلى الفحولة المبنية على ( الفصاحة ) التي تتمظهر بالقدرة ( الشفاهية ) على التعبير والتأثير، وعليه فإن المنهج التفاضلي هو منهج معياري مركزي نابع من طبيعة الثقافة العربية بمختلف أصنافها وفروعها واتجاهاتها ولو تعمقنا أكثر لوجدنا أن هذه الثقافة هي إلغاء ( للآخر ) المختلف أكثر مما هي اعتراف بحضوره ووجوده ؛ فهي غيرية صدامية لا صراعية حوارية ومن هذا المنطلق فالهيمنة الفردية لا تسمح بالتعددية .. ولكن هل تنطبق تلك المنهجية التفاضلية الفردية على الثقافة العربية المعاصرة ؟ أو هل يمكن أن نصفها بـ( الحديثة ) ؟ وهي التي التفتت، أوّل ما التفتت إليه ، إلى ( الآخر ) بوصفها فلسفة أو رؤية _ أعني الحداثة _ تقوم على احترام الآخر والتعددية والفردانية الإنسانية والمرجعية العقلية .. هل أصبحت الثقافة العربية تحترم الآخر أو شكلت تصوراً فكريّاً له ؟ .. أعتقد أن ثقافة عربية مازالت تنتجها السلطة الدينية بمرجعيات قبلية وإيديولوجيات متطرفة لا يمكن أن تخلق تصوراً إيجابياً للتعددية الثقافية وإن كان ثمة مشاريع عربية تصدح ليل نهار للتحديث الثقافي فهي مشاريع فردية ومحكوم عليها بصفة المعارضة أي ( الإلغاء ) لأنها خطرة على ( حرمة ) مقدسات الثوابت المعرفية وهدم للقيم الفردية التي انتجها ( العقل الفاضل ) وبالتالي فإلى اليوم نحن نكرر نشيدنا الثقافي : أفضلية السابق على اللاحق .. أفضلية الذات على المنتمي إليها وعدوانية الآخر المختلف عنها ومن هنا فإن منهجية المفاضلة مازالت هي من تحيي الذات وتميت الآخر .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram