حيدر المحسن
هو الخائن الذي دلّ الميديين (الفرس) على طريق سريّ يؤدي إلى مؤخرة الجيش اليوناني المستبسل في الدفاع عن أرضه، جرت المعركة في عام 480 ق. م، وقُتل بسبب هذه الخيانة آلاف اليونانيين، ومعهم ملكهم ليونيداس الأول، وتمكن الفرس عندها من غزو بلاد اليونان. ويُلاحظ أن كافافيس لم يذكر الملك ليونيداس بالاسم، ولم يتغنّ بكونه أحد أحفاد هرقل، وخصّ بالذكر الجنود الشجعان وحدهم:
«المجد لأولئك الذين صمدوا
ومضوا يحرسون ممر ثيرموبيليس
دون أن يتزحزحوا عن واجبهم لحظة
سبلهم مستقيمة، وعادلة أعمالهم كلها، وإن لم تخل أيضاً عواطفهم من الرقة...».
وتمضي القصيدة في ذكر خصال هؤلاء الجنود، وكأنهم رجال أصفياء يندر وجودهم في الزمن الحاضر، أما الخائن أفيالتيس فقد جاء ذكره في الخاتمة:
«المجد ثم المجد
لأولئك الذين بإمكانهم أن يرصدوا الغيب (وكثيرون منهم على ذلك قادرون)
ويعرفوا أن أفيالتس في النهاية سينتصر
وأن الفرس آخر الأمر سيمرّون».
كان الجنود يعرفون بأمر الخيانة إذن، وإن بالحدس، لكنهم ظلّوا يدافعون حتى قضوا جميعاً، وهو ما مجّده كافافيس في القصيدة التي يعود تاريخ كتابتها إلى عام 1901، أي إنها من أعمال الشاعر المبكرة، ورغم ذلك تمكن من بعث حدث قديم لا يمتّ للحاضر بصلة، فالإسكندرية التي عاش فيها احتلّها العرب المسلمون منذ قرون، وكان الشاعر يعيش فيها كمواطن يونانيّ ضائع بين أوراق تاريخ بَلى، وتهرّأ، ولا أحد يميّز الآن حروفه.
بعثُ الماضي في الأدب يشبه إشعال النار في رماد مبعثر، ورغم أن هنالك استجابة شعرية لكلّ ما في الماضي من قبل شعراء عديدين، لكننا نجد في قصائد كافافيس حلقة ضائعة بين الحادثة كما ترويها كتب التاريخ، وبين مدلولها في القصيدة كموقف إنساني شامل فيه صورة للحياة المعاصرة بعامة. لم يضع الشاعر خريطة تساعد القارئ على الاهتداء إلى هذه الحلقة، لكن المتلقي يصل إليها دون مشقة، والسبب في ذلك يعود إلى أن الشاعر كان مولعاً بالماضي إلى درجة أن الأموات كانوا يروقون له أكثر من الأحياء، ولم تحتج عيناه يوما أن ترى الأشياء في حاضرها، لأنها مضبوطة على الذكرى، وهكذا يصبح التاريخ بالنسبة للقارئ ملجأ، مثلما هو ملاذ للشاعر، ينقذ الاثنين من المأساة.
هنالك تأكيد على كرامة الإنسان في شعر كافافيس، ودوره البطولي في السلم وفي الحرب، مع أن البطولة التي تحدث عنها بصورة واضحة ومتعمدة جاءت على نحو مغاير تماماً للذوق القديم. إنها “البطولة الهادئة للفرد، لا بطولة القضية أو الموقف أو الرجل القوي المحترف” على حدّ تعبير الناقد ريكس وارنر، لأول مرة نتعرّف على ما يمكن أن ندعوه بالغنائية المنهزمة، فالشاعر يصوّر الملك المنكسر، المطرود، ويعرض لنا ما يبدو لمعظم الناس شؤون حب فاضحة، وغير مقبولة، كما أنه يصف الجنود الذين قتلوا في المعركة، وخسروها، ويكيل لهم المديح:
«إن أوتوا ثراءً، فهم يفيضون كرما، وحتى في فقرهم يجودون من القليل الذي لهم.
يبذلون كل عون بإمكانهم أن يبذلوه».
أعطى الشاعر للقصيدة عنواناً اسمُ الممرّ الذي استبسل الجنود في الدفاع عنه: “ثيرموبيلاس”، وهو سهل ضيق بين الجبال والبحر يحمي أثينا من الأعداء، ولولا خيانة أفيالتس لما تمكن الفرس من غزو اليونان، لا يوجد فرق كبير بين الخيانة والغدر، فكلاهما نقيض للأمانة، وقفاً للوفاء؛ وقيل إن الخيانة أنثى، والغدر ذكر. قُتلَ الخائن أفيالتس في نهاية المعركة غدرا، وتمّ التخلّص من جثته في ظروف غامضة. فمثلما تخون، يُغدر بك، هذا هو قانون الله، والطبيعة، وقانوننا نحن البشر، فكيف إذا كان المغدور هو الوطن؟
جميع التعليقات 1
كريم سعدون
مقال رائع كما تعودنا على قراءة مايحود به قلم الدكتور حيجر المحسن، وهذا هو قلم ناقد في تتبعه لمسار النص وداخله، يجوس ديار القصيدة ويزور مداخل بيوتاتها وخارجها، ثراء في النص وفي بناءه فشكرا لك دكتورنا الفاضل