لطفية الدليمي
شاعت في مجتمعاتنا العربية ولعقود عدّة فكرة أنّ العمارة نشاط مقترن بالأرستقراطية المالية حصرا، وأن زبائن المعماري هم عادةً من الأغنياء المقتدرين المتطلبين لتفاصيل معمارية معينة تفصح عن قدراتهم المالية حسب، ولاتعني في الغالب رؤية فنية مميزة أو شغفاً بالفن والطبيعة ينمّ عن فهم ودراية .
يمثل ( الحكّاء ) المعماري معاذ الآلوسي نموذجاً مغايراً لهذه الفكرة ؛ فهو أقرب إلى شخصية المثقف - المعماري المتخفّف من أعباء الإمتيازات المفترضة في ممارسي المهنة المعمارية ، فضلاً عن شخصيته المتسمة بأرستقراطية ثقافية تتجلى في إبداعه التشكيلي وأسلوب حياته ، وقد ترك الرجل تأثيره في جيل كامل من المثقفين – معماريين وسواهم - ممّن أصبحوا يرون في العمارة وسيلة للإرتقاء بحياة غالبية الناس وليست مجرد إنجاز متطلبات معمارية لبعض الأغنياء المتبطّرين .
تبدو المقاربة المعمارية التي يعتمدها معاذ الآلوسي في أعماله ومؤلفاته شكلاً من أشكال العمارة العضوية التي بشّر بها المعماري الأميركي ( فرانك لويد رايت ) ؛ غير أنّ عمارة معاذ الآلوسي ورؤيته الشاملة لنمط الحياة التي يتوجب أن يعيشها الإنسان ليست تبشيراً بمقاربة فلسفية معمارية محدّدة ، بقدر ماهي رغبة شغوفة بالإندماج بالطبيعة وتوظيفها لتحقيق الرغبات البسيطة والمؤجلة لغالبية العراقيين، رغباتهم بالعيش وسط تشكّلات معمارية مصمّمة وفقاً لرؤية جمالية وفلسفية تتناغم مع البيئة والروح المترفعة عن قوانين السوق والمرابحة الرخيصة .
ثلاثُ مزايا تطبعُ شخصية المعمار معاذ الآلوسي بطريقة واضحة وجذابة لكلّ من التقاه أو قرأ مؤلفاته : الأولى هي لطافة معشره وطاقة الجاذبية المخبوءة في حديثه ورفعته الأخلاقية ومزاجه الجمالي وحفاظه على الروح العراقية في سلوكه وعمله ومواقفه وانجازاته المعمارية ، والثانية هي كونه ممثلاً معيارياً لحالة التشابك المعرفي بين الأنساق الثقافية ؛ فالفكر المعماري والممارسة المعمارية عنده ليسا مسارين معزولين بل هما اشتغالان متعشّقان مع الإشتغالات الإنسانية الأخرى ؛ أما المزية الثالثة فهي صفة ( الحكّاء ) ، وكلّ من التقى الآلوسي وأصغى إلى حكاياته المكتنزة بالخبرة والثراء المعرفي والإنساني سيكتشفُ هذه الخاصية الحكائية الطبيعية فيه .
دأب الآلوسي على تدوين سيرته الذاتية الفكرية - الحياتية - المهنية في كتب ثلاثة أخرجها تحت عناوين مثيرة لافتة - لا يغفل عن شرحها للقارئ - ، جاءت حسب الترتيب التالي : «نوستوس : حكاية شارع في بغداد»، و«توبوس : حكاية زمان ومكان»، و«ذروموس : حكاية مهنة» . يصرّحُ الآلوسي في كتابه الأخير ( ذروموس : حكاية مهنة ) بالعبارة البليغة التالية : " أنا غير ضليع بلغة الحكي ، وكثيراً ماأُتأتىء ، وقليلاً ما أتحدث بلغتي المهنية ، بمعنى الكلام والشرح ، لأن هذه اللغة - حسب عاداتي وتكيفاتي- لا يُتَحَدّثُ بها بل تُجَسّدُ بعمارة ذات انتساب واضح ؛ فهي بنت بيئتها المحلية ..... " ، وهي عبارةٌ لاأراني متفقة معه بشأنها ؛ فهو تيار متدفّق من القدرة الحكائية التي توظّفُ أعقد الموضوعات المهنية في صيغة إطارية محببة تدفع القارئ والسامع معاً لأن يتفاعل بأقصى دوافع الشغف مع مايقرأ أو يسمع .
كم كنتُ أتمنى أن توضع بغدادنا الحبيبة في عهدة معاذ الآلوسي ، الجنّي البغدادي الأنيق ، الذي يعرفُ قدرها ويعرف كيف يتعامل معها بشرف ونزاهة ووعي عميق بإرثها الجمالي وعراقتها ، وقبل هذا بعشق يرتقي إلى مصاف العشق الصوفي الذي يليق ببغداد ؛ لكن ، وياللأسف ، ماكل مايتمناه العراق يدركه في عصر تسيّدت فيه الرثاثة كلّ جوانب الحياة العراقية.