أنا مسحور بالكائن البشري، لذلك أحب الكتابة عن فتنته، مع أنني اضطر في بعض الأحيان لصبّ لعناتي عليه، بسبب كرهي لجرائمه وشروره وخياناته وفساده.. كنت قبل أشهر أكتب بحثاً في انثروبولوجيا الاتصال البشري، كيف يحدث، ما هي مستوياته وكيف تعدد آلياته، كان بحثاً مختصراً وبجهود بسيطة، ويعتمد على أداة الملاحظة الأولية.
لم اخرج بأشياء جديدة، لكنَّ سحراً تملكني وأنا أتابع كيف تجري عمليات الاتصال بيننا نحن بني البشر، كيف نرسل الرسائل حتى دون أن نعلم أو نقصد في بعض الأحيان، وهنا اكتشفت فتنةً ليس كمثلها فتنة.. فليس كل الرسائل التي نبعث بها للمحيطين بنا مقصودة أو مباشرة، وكما يحدث مثلاً عندما تَخْجَلُ المراهقة، حيث تنهال الكثير من الرسائل، من على خديها ومن نظرات عينيها وحتى من طريقة مشيها وكيف تطرق بوجهها، هذه كلها إشارات نفهمها جميعاً، وكانت لتتمنى أي مراهقة لو تبتلعها الأرض ولا يشعر الآخرون بضيمها.. لكن كما قلت؛ بعض عمليات الاتصال تجري رغماً عنّا.
الكائن الفتّان لم يترك أي مفردة من مفردات حياته إلا وسخرها لتحقيق غايات اتصالية، حتى ملابسه، كيَّفها لتكون أدوات تواصل مهمة لا مجرد أغراض تحميه من ظروف المناخ، إذ الملابس التي نرتديها تكشف عن مكانتنا الاجتماعية أو عملنا والثقافة التي ننتمي إليها. هناك من يرتدي ملابس ليقول من خلالها بأنه فنَّان، أو متمرد، أو خلوق ومتدين، أو فاحش الثراء أو مُعْدَم، وهكذا.. الملابس الدينية تتضمن قائمة بالآداب الواجب إتباعها مع لابسها، لذلك تجد نفسك مدفوعاً لاختيار مفردة (أبونا) وأنت تخاطب رجلاً لا تعرفه، لكنه يرتدي ملابس قس. أنت تفعل ذلك بتلقائية ودون أن تشعر برسالة الزي. طيب هل هناك فرق بين العمائم التي يرتديها رجال الدين؟ حسنٌ؛ طريقة لف العمامة ولونها تخبرك عن الدين والمذهب، إذ العمامة السوداء، عند المسلمون، تشير للانحدار من نسب النبي.
كنت أتمنى أن يستوعب العمود اليومي كمّاً أكثر من الهذيان، إذن لتذكرت الرسائل الاتصالية التي ترسلها الهرمونات، رغماً عنا، أو تلك التي ترسلها انفعالات الجسد، أو تلك المتضمنة بالمباني التي نبنيها، فالرسائل التي تتضمنها طريقة بناء المسجد تختلف عن تلك التي ترسلها طريقة بناء الكنيسة.. ألم أقل لكم أننا كائنات فتّانة. راقبوا من حولكم كيف يتصرف أي فرد جالس لوحده ويعتقد بأن لا أحد يراقبه، وستستمتعون بأحلى الإشارات وأغربها، أقصد تلك التي تخبركم عن حالته النفسية أو الجسدية أو حتى الاجتماعية. سيقول لكم إن كان قلقاً أو حزيناً أو مقبلاً على ارتكاب فعل شائن، أو غارق في تأملات بعيدة.
نحن حقاً كائنات فتّانة وساحرة، ولا يُفقد سحرنا أهميته غير استغلالنا موارده في ارتكاب أكثر الأشياء دموية وشراً.
جميع التعليقات 1
جمعة جهاد
اخ سعدون انت تذكينا بباقات رائعة من اعمدة الوردسيما ونحن مشغولون بتكالف الحياة الصعبة فمرحى لك(هذه رسالة هرمونية غارقة في تأملات شخصيتك الاممية