ياسين طه حافظ
1
المثقفة العربية غالباً ما تكون أسيرة مجتمع مهووس بافكار متقاطعة، موروثة تقوم عليها أعراف اجتماعية،
و"متشوقة" يقوم عليها تطلع لما يرَيْن ويقرأن ويسمعن، شعورهن المتنامي بأن ذلك هو ما يليق بعصرانيتهن، سبب لهن شعوراً بنوع من النفي عزلتهن ثقافتُهن الجديدة، أو تحضرهن عن عموم النسوة الخاضعات. إحساسهن بالتميز وبتفوق الذائقة والجماليات اليومية في حداثة الأزياء والأطباق والمكياج والإصدارات الثقافية الجديدة – روايات وأشعار وأفلاماً سينمائية، هذا الإحساس مثلما انتج امتيازاً في مجتمعهن، أوجد لهن متاعب مواجهة وحساً بالمرارة. أنتج اختلافاً لا فرحاً وازدهاراً ولكن أسفاً وأوجاعاً وربما تشوّهات.
وقد يكون طبيعياً، أو لا بد منه، أن مسألة الحرية الشخصية للمرأة في مجتمعات ما تزال غير مستقرة حضارياً، تتحول إلى مصدر حزن وهمٍّ فرديين. لكن هذا الوجع أو الأسف يكبر إلى مشكلة حين يكون ضمن انشغال الانتلجيسيا في التنظيمات السياسية – أي بالحرية الأوسع، أو بحرية الوطن وتحرر الشعب. فمثلما وجدت الحرية الشخصية للمرأة في هذا أصلاً تتفرع منه وتنتمي إليه، مما يمنحها سنداً، هو في المقابل طرح على المرأة شرط مواجهة أخرى أوسع، مما وسّعَ حجم الضد.
فالبدايات الفردية كانت رغبات في الأجمل والأكثر حرية في نطاق الذاتي، وكانت المعنيات بالحرية منهن من الطبقة الوسطى ومثقفات العوائل الارستقراطية اللائي وجدن فرصة لتذوق الحياة الفردية الحديثة، أو تثقفن على مشاهدات وقراءات وأسفار إلى بلاد فيها الكثير من الجديد.
لإيضاح تعقيدات الإشكال النسوي الجديد في المنطقة لا بد من القول ولو بإيجاز : أن الحرية "النسوية"، لا في المنطقة العربية ولكن في العالم أيضاً، تحت مصدرين ضخمين من الثقافة الجديدة والتثقف بالفهم النسوي. واحد منهما، وهو الأكبر، مفاهيم ومقولات أميركية بريطانية وفرنسية، وآخر عبّأت له الثقافة السوفيتية (بالنسبة إلى ما كان). وإن اختلفت الجبهتان في تأثيراتها، لكنهما في النتيجة، وبالنسبة لموضوعنا، تبدوان واحدتي التأثير إذ ولدا معاً قلقاً، سيعمّق خلافاً في مضمون الحركة النسوية، قلق المضمون هذا أرجأ تبلور الحركة بتيار واحد يفرض حضوره عبر تنظيمات موحدة لها فعل وللفعل استجابة.
لكن هذا لم يحصل، ففي الولايات المتحدة نجد الحركة النسوية مشخصة رسمياً، واجتماعياً، إما بتبني الاشتراكية وحركة اليسار مما أوجد لها تفرعات وانشقاقات مختلفة في التوجه أو انشقاقات مؤسساتية، باسناد مالي. وكان لهذا هدفان: الأول إضعاف الحركة النسوية وثانياً حرف اتجاهها الثوري اليساري، وهو فعل سياسي أساساً.
وفي بريطانيا، تمَّ ما يشبه اللقاء بين الحركة النسوية والتوجهات الاشتراكية أو العاملين في جبهة اليسار. كان رفض الواقع قاسمهما المشترك . في فرنسا كان هناك تنوع ضمن إطار الحرية، تحرِّك أطرافه الاجتهادات الثقافية.
أما في منطقتنا العربية فقد أدى انحسار اليسار في العقود الأخيرة، في العراق ومصر والسودان، وبتخطيط شبه متشابه، إلى نقص واضح في تغذية النهوض الجديد وتخلخل في تماسك الاتجاه ووحدانيته. الحس النسوي بقي حياً ولكن من دون تصاعد أو ازدهار، وبسبب من "رسمية"، المنظمات – التي ترعاها الدولة ولها السيطرة على مضامين برامجها، فقدت فعلها التمردي، الاحتجاجي، وحق المطالبة المشاكس في الحقوق. اختفت الروح الثوري منها لتظل مكاتب رسمية تهتم بشؤون المرأة إلا علامات فردية متباعدة تتفتح في الكتابات الثقافية أكثر مما في التنظيمات النسوية، بدت هذه هوايات أكثر مما هي أهداف كبيرة ومهمة. وكونها حاضرة في الحقل الثقافي أكثر منها في الحركة النسوية وحقوق الإنسان، لم يلغ حقيقتها كهامش محترم، يرجى تصاعده في النضال الوطني.
علينا أن نشير إلى أن وراء هؤلاء النسوة البارزات، التثقيف الخارجي، من المصادر الثقافية، كتباً مترجمة وأفلاماً وفضائيات وعبر الفن والأدب يتقارب مع أولئك اللائي في الطب والقانون.
حركات فردية مثل هذه، معرضة دائماً لخطر التشتت والتحريف، وهذا ما حصل فعلاً حيث تخلى بعض منهن وصار بعض منهن يعمل سياسة وولاءات حزبية، ثم مذهبية دينية، اكثر مما هن مناصرات لجوهر الحركة النسوية وتفاصيل الحراك الأنثوي في العالم.
وبسبب انعدام المركزية ووحدة الاتجاه، لم تقم لا المنظمات النسوية الرسمية (وهذا متوقع) ولا المنظمات النسوية في العالم ولا منظمات حقوق الإنسان بعمل احتجاجي مهم، وعلى نطاق دولي، على اضطهادات واستغلال ونحر النساء وقتلهن بأساليب مبتكرة، بغدر كهربائي مثلاً، ومع الادعاءات الواسعة، والذرائعية، للديموقراطية لم نجد حتى اليوم فعلاً يضع حداً حاسماً لهذه الظواهر الوحشية المدانة .. لا استنكار ولا ادانة للدول التي تسمح أو تتساهل في ذلك، وتزايد عدد المذبوحات والمقتولات غدراً بتزايد مظاهر التقدم والسماح الذي يبيحه التقدم الحضاري، بالاختلاط مثلاً. حتى أني كتبت يوماً مقالة بعنوان : هل نوقف الحضارة أم نوقف قتل النساء؟ الديموقراطية بالنسبة لحقوق المرأة في المساواة، منقوصة بشكل فاضح في العراق وفي الشرق عموماً وفي أفريقيا وفي العالم ... وهذا ما اعلنته عالمة السياسة اليزابث سيليذريوسكي في حلقة دراسية عقدها المجلس الأوروبي سنة 1992.
عبر هذه الأجواء الغائمة والملغومة ومع خطوط التقدم الواهية، نجد أصواتاً للأدبيات منهن، وكذلك بين عدد طيب من الأكاديميات، يومض حس أنثوي قد يسطع بقوة أحياناً، يحمل نوعاً من نفاد الصبر والاحتمال حد إطلاق الصرخة. في السنوات الأخيرة صار هذا الصوت أكثر نضجاً ومختلفاً نوعاً عما ألفناه، كان من قبل مقتصراً على العنف والحرمان الجنسي والاستغلال البدني والمادي. اتسع إلى حقوق المرأة الأخرى، إلى طلب حرية أكثر وحقوق إنسانية عامة وفردية شخصية، وضوح الصوت الرافض والشكوى المباشرة والأكثر حدة، تعني تقدماً أنثوياً وتمنح البدايات الجديدة قوة ورصانة واستعداداً لتحول في الوعي النسوي الجديد ليجعل من شبه الحركة النسوية المحلية حالاً أقرب للفكر النسوي الجديد وحقوق الإنسان.
وهنا تبدأ "اجتماعية"، الحراك الأنثوي وتماسه الأولي بالحركة النسوية في العالم ليحول من بعد عنصراً مهماً مضافاً الى الحركة الوطنية – السياسية.
لكن التماس بالسياسي أيقظ من ناحية أخرى الحس الفردي المنعزل، وقد اتضح هذا في الكتابة الأدبية والصحفية، لاسيما بين المثقفات والمتأدبات والعاملات الثقافيات في المؤسسات الإعلامية وهو أكثر وضوحاً في الأكاديميات الفنية.
الابتعاد المحدود عن السياسي انضج الحس الفردي أكثر وعزله عن الفعل الاجتماعي. وقد كان هذا سلبياً بالنسبة للعمل السياسي لكنه مهم للوعي الأنثوي وقد أوجد هذا الهامش نوعاً من الحس أو الحراك الأنثوي "الصرف"، وهذا وسع الحس الأنثوي والتعبير عنه لدى عدد أكبر منهن إذ زال الخوف من السياسة والدولة...
وهي هذه المرحلة التي لفتت الاهتمام فيها أصواتٌ نسوية، لا في المنظمات السياسية، ولكن في التجمعات الأدبية والفنية وبين بعض من يعملن في الصحافة، وصرنا نحس أن وعياً أنثوياً "جديداً" يمكن تلمسه في الكتابات والتجمعات الثقافية ونماذج من اختراق التابوهات والجرأة على الممنوع، بدأت بالظهور، بحذر وبإرث من الخوف القديم وبعض بجرأة واضحة مسندة بوعي ثقافي نسوي جديد، وهي هذه البذور الأولى التي رأيتني مهتماً بها وبان أشير إليها. فأنا واثق بان أجواء خصبة ماطرة كفيلة بإنبات هذه البذور ونموها، في الشعر بيئة لتلمّس ذلك واستكشافه لقربه مني، وهنا كان همي بشعر له مستوى فني مقبول الشهادة في التشخيص ويوفر لي حاجة في كتابة ما أريد، او في تسجيل شواهد زمنية نحن شهود عليها. لي من النصوص "ما اهتم به" وقد يكون للناقد الأدبي المتخصص رأي آخر أو استدراك! في كل حال أنا أبحث عن بعض حي من المضمر الاجتماعي، وهذا هو تماماً ما يعنينا وبأنتظار ما يقوله المستقبل عما اشرت له وعن مجمل الحياة اليوم.
وهكذا بدأتُ، فقدمت فصولاً نشرتها "المدى"، بعنوان "كتابات في النسوية"، تفحصت فيها نصوصاً لعدد من الشاعرات ممن وجدت في شعرهن ما يستوجب الانتباه له: بوحاً حذراً أو جريئاً وهي بدايات، أي صفات الأنثوية بدأت ! وأنا هنا، وهذا تأكيد آخر، لا أتحدث عن التفوق الأدبي، قدر ما اتحدث عن التفوق في الكشف والاحتدام الأنثوي، تقدماً أو تردداً أو يأساً واستسلاماً، هو نوع من الاحتجاج وإن كان لا يحظى كثيراً باهتمامنا كما الإيجابي الأكثر مواجهة وجرأة.
من الأصوات اللاهجة بالتفاصيل الأنثوية والحس الأنثوي، والتي تحس بحجم القمع الكبير وبصعوبة اختراق ما يواجهها صوت الشاعرة ابتهال بليبل. صوت واضح المعاناة ومشوب حد التشوش بأحاسيس هذه المواجهة، حتى لتغلق كل المساحة أحياناً. استطيع القول إن سحابة المأساة الاجتماعية هي المتحكمة بأجواء النصوص وإن الشاعرة محكومة بالطوق المغلق، الجاهل والمسلح! وحديثها غالباً عن دمارها البطيء وراء العارضة و "تلكم السيارات التي تنتظر":
لا لشيء سوى ألوانها المائية
تستسلم للتلف
لعناقات عابرة، للمياه والأتربة
نيكروفيليا بشريط ملون
ص96
و
لا أتذكر متى اكتشفتُ
علاقتها بمحارق أو بمعسكرات
(مائلات من ثقل دمعه)
واضح إنها مع احتمال الوجع ومع الشكوى والأسف اكثر مما هي مع التمرد. وعنوان المجموعة "مائلات ..." فيه كشف لمعاناة حد انهن مائلات تحت ثقل ما يحملن أو تحت ثقل أحزانهن. هي شكوى أكثر مما هي تمرد أو حس ثوري. في كتابتها، الصوت إما مرجأٌ وأما يصل إلى نصف المسافة ولا يقوى بعد ، وطبعا التراجع بانكسار نتيجة متوقعة. الأنثوية هنا لم تكتمل لتهاجم. هي ناشئة الآن تترعرع في ظروف غير مساعدة :
"لم أتجه إلى شفاء اشتهيه"!
شخص المتمرد هنا يلوم نفسه، لأنه يشعر عميقاً بأنه لا يستطيع انجاز المهمة، وإلا لذهب إلى شفاء يشهيته. وهو إدراك سليم لصعوبة اختراق منظومة اجتماعية متجذرة في المنع والتحريم، أي في الردع! من ناحية أخرى، نعطي بعض الحق لمجتمع يريد حماية نفسه من الطارئ وهو لم يمتلك بعد التحضر ليتحقق من أفضلية البديل ، هذا إذا تعاملنا مع الموضوع ببراءة. وإلا فالمجتمع تهيمن عليه منظومة حاكمة متنعمة ومطمئنة للحال التي هي فيها، فهي تصد أيَّ تحرك أو حضور يشير إلى تغيير! ومخطئ جداً من يظن أن الرجعية بريئة أو ساذجة، هي تعرف مصالحها وتعرف جيداً كيف تغلق الأجواء عما يهددها أو حتى ما لا يرضيها.