ستار كاووش
يُسْمَحُ لي هذه الأيام بإستقبال شخص واحد فقط في المرسم! هذا ما حَتَّمَتْهُ الإجراءات التي فرضها فايروس كورونا، لذا انتظرتُ المرأة التي اتصلت بي قائلة بأن اسمها ماريا، وهي تود رؤية لوحاتي، فأحضرتُ الكعك والقهوة كالعادة ورحبتُ بها.
تجولنا في المرسم والصالة الصغيرة التي أعرض فيها أعمالي، ولم تمض لحظات حتى عرفتُ بأنها تفهم الرسم جيداً وتملك حساسية من نوع خاص أزاء الأعمال الفنية. أَخَذَتْ ماريا تتطلع الى اللوحات وتسألني عن هذه التقنية وتلك المعالجة، وعن سبب تنفيذي لبعض اللوحات بتكوينات غير مألوفة وعلى سطوح دائرية، ثم التفتت نحوي متسائلة (كيف تحظى بهذه المواضيع والأجواء الشاعرية التي ترسمها؟) وقبل أن أجيبها أكمَلَتْ (كيف تُحَوِّل ما يجول بخاطرك أو خيالك الى خطوط وألوان وتداخلات؟ من أين تحرز هذه التناغمات؟) فأجبتها (ها أنتِ قد وجدتِ الجواب بنفسك، بذكرك مفردة شاعرية) لأن أحد مصادري في الرسم هو الشعر، حيث غالباً ما أتوقف عند مقطع صغير من قصيدة وأفكر أن أجد له مرادفاً تشكيلياً. فإستَفهَمَتْ المرأة أكثر عن كيفية تحويل بعض القصائد الى لوحات، وهنا أوضحتُ لها بأني لا أحول القصائد الى لوحات، بقدر ما تكون هذه القصائد بمثابة عود ثقاب يشعل الفتيلة التي تمنحني بداية دافئة، وكي لا أبدو كمن يعيد أفكاراً قديمة وأنا أتحدث عن العلاقة الوثيقة بين الرسم والشعر، وكيف أن أحدهما يستلهم من الآخر، لذا أريتها كيف أن شعراء هولندا قد كتبوا أيضاً مجموعة كبيرة من القصائد حول لوحاتي ضمن كتاب (أصابع كاووش) الذي أعدَّهُ الشاعر موفق السواد من قصائد هولندية، لذا أنظرُ الى الشعر والرسم كنافذتين مفتوحتين بإتجاه بعضهما دائماً، يتداخل الضوء الذي يشع منهما بطريقة لا نعرف معها إنْ كان هذا الضوء قد إنبثقَ من هذه النافذة أو تلك.
وفي الحقيقة، أنا كرسام أعتبر الطبيعة هي الملهم والمصدر الكبير للأعمال الفنية بشكل عام ولأعمالي بشكل خاص، مع ذلك أحاول أن أوظف هذه الطبيعة أيضاً بطريقة خاصة وشاعرية، لكن هذا لا يمنع أيضاً كون الشعر مصدر إلهام مباشر لي ويعطيني الكثير من الحلول الجمالية، حيث يكفيني مقطع صغير أحياناً كي أذهب معه بعيداً على قماشة الرسم، لذا أعتبر الشعر هو رئتي الثانية التي أتنفس من خلالها بعد رئتي الأولى التي هي باليت الرسم، إنه الأفق الذي يمنحني طاقة اضافية لخلق هذه الاجواء والمناخات التي تظهر في لوحاتي. فهو، أي الشعر، كان ملازماً لي ولأعمالي وافكاري منذ البدايات، ليس فقط لأن أغلب اصدقائي من الشعراء، لكن الشعر بشكله العام والواسع كان ومايزال يمنحني لمحة ضوء تجعلني أمضي مع الرسم بمرونة اكبر وخيال أوسع، وبما أن الرسم في أساسه يعتمد على الخيال، فذلك ما يوفره الشعر وما تمنحه القصائد ايضاً.
تحدثتُ لضيفتي عن معرضي الشخصي الأول (سيقان وأرصفة) الذي أقمته سنة ١٩٨٧ بقاعة التحرير في بغداد، وأريتها صوراً لبعض لوحات ذلك المعرض الذي رسمتُ فيه المقاطع والأجزاء السفلية فقط من أجساد الناس والمارة والعشاق، وكيف أن الإشراقة الأساسية لكل لوحات المعرض جاءت من مقطع صغير قرأته للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، والذي يقول فيه (الريشة عصفور حي يرزق) وقتها اكتشفتُ عظمة الاختصار من خلال هذا المقطع الشعري الصغير، وفكرت حينها أن الجزء يمكن أن يعوض عن الكل (كما تفعل السينما ذلك بشكل كبير)، ومضيتُ برسم لوحات المعرض والتي تظهر فيها سيقان وأقدام الناس فقط. هكذا أرى الشعر مرادفاً جمالياً للرسم ولا يقترب من هذه المكانة سوى الموسيقى، والتي تشكل الضلع المتبقي من المثلث الذي يقصده المفكر الفرنسي أتيان سوريو حين قال (إن الموسيقيين والرسامين والشعراء، ثلاثة كهنة في معبد واحد).
في نهاية لقائنا، تصفحت ماريا أحد الكتب التي تحتوي على أعمالي وقرأت بصوت مسموع عناوين بعض لوحاتي وإبتسامتها تتسع مع تتابع القراءة (الأقدام الراقصة، بعيداً عن الأرض، الحلم الأزرق، الأفق الأخضر للعشاق، مطر الصيف الأزرق، القُبلة المائلة، غواية الملاك، وداع الصيف، إقترب مني أكثر...) ثم رفعت نظرها نحوي قائلة (هذه العناوين تقول ما فيه الكفاية) وأردفت (سوف لن يفارقك الشعر أبداً ياستار).