علاء المفرجي
- 2 -
يركز الناقد الجزائري عبدالكريم قادري في كتابه (سينما الشعر) على بحث بازوليني في هذا الخصوص بشيء من التحليل والمعالجة إضافة الى كتابة عدد من نُقاد السينما وكتّابها حول هذه النظرية، وخاصة كرستيان بيتز، وبيتر وولين، وامبرتو ايكو.
فيما يرى الناقد أمين صالح أن «الشعر، في جوهره، لا يتصل بالقصيدة وحدها، فالطاقة الشعرية كامنة في السرد، في النصوص النثرية، في الصورة السينمائية، في اللوحة التشكيلية، في المقطوعة الموسيقية، في النحت، في الطبيعة، في الحياة اليومية. ولا يمكن لجهة ما أن تحتكر ما لا يمكن تحديده وتأطيره، وما لا يمكن أسره.»
فالشعر لاتحتكره القصيدة والشعر كما يقول نرفال:» يهرب من القصيدة، ويستطيع أن يوجد من دونها”.
نقف هنا عند فيلم (باترسون) لجيم جارموش والذي يمكن أن نصنفه بافلام السيرة الذاتية، من جانب أن السيرة هنا ا تحفّز على إكتشاف الذات، واكتشاف أفكار ومقاربات في حياتك الخاصة عبْر قصص وتجارب الآخرين، وهي في هذا الفيلم عن الشاعر الأميركي وليام كارلوس ويليامز. لكننا هنا ليس إزاء شخصية الشاعر وزمنه، بل عن تجربته، عن شعره بشكل يسمح رؤية العالم بطرق جديدة...
وليام كارلوس ويليامز (1883 - 1963) الشاعر الاميركي الحائز على جائزة الدولة للشعر الأميركي 1950 م وجائزة بولتيزر إضافة الى جوائز أخرى. والذي نال إجازة في الطب والتقى بالشاعر عزرا باوند والذي أثر كثيراً في كتاباته.
يقتفي جارموش في هذا الفيلم خطى الشاعر في قصيدته الملحمية «باترسون» التي صدرت في 5 مجلدات خلال منتصف القرن الفائت، وباترسون هو اسم المدينة وأيضا أسم شخصية البطل في الفيلم، وهو الشاعر الذي يعمل سائقاً للباص في المدينة وعاش حياة مسترخية مع زوجته الشابة، ويكتب الكثير من القصائد والتي تُعجب بها زوجته، وهي مؤمنة إنه سيكون شاعراً كبيراً..
الشخصية هنا لاعلاقة لها بالشاعر أو سيرته، وحتى القصائد التي يقيها خلال مشاهد الفيلم فهي منسوبة لشعراء آخرين وليس لويليامز.. مالذي تبقى من سيرة الشاعر ويليامز إذن؟. هنا نحن مع أسلوب جارموش في الإخراج حيث السرد في الفيلم يتمرد على السرد التقليدي، مثلما يبني مشاهده البصرية بشكل متداخل.. فيعرض مشاهد لأحداث لاصلة بينها، لكنها تتقاطع حتماً بالكثير من الدلالات..
فالفيلم هنا هو المعادل البصري لقصيدة ويليامز في تفاصيلها الحياتية والجمالية، حيث القصيدة الملحمية تستلها جماليات المكان وهو هنا مدينة باترسون.
فجارموش رسم بصرياً لمحاولة ويليامز كتابة قصيدته، فمثلما كانت كلمات القصيدة تستلهم التجوال في شوارع المدينة وحركة الناس وأحاديثهم، فان كاميرا جارموش رصدت التفاصيل اليومية المملة، والأحاديث الغريبة في الباص أثناء تجواله.
أن تعيش أجواء القصيدة وتمارسها بل وتتذوقها هو ما فعله جارموش بفيلمه (باترسون) وهو ما لايفعله غيره.
وجارموش كما في كل أفلامه يقدم حكايته ولايلزم المشاهد بمعرفة غاياته منها، ويعيش أجواء قصيدة ويليامز كما سمعها».
ففي فيلم «أغرب من الفردوس» في عام 1984 اعتمد مجموعة من الأحداث ليصوغ منها حكاية الفيلم التي تبدو غير مترابطة.. أما في فيلمه (يسقط القانون).. فيختار ثلاث شخصيات غير منسجمة بطبيعتها ومتناقضة تتقاطع بالمصير والهرب، أما في فيلم (قطار الغموض) فنتعرف على شبح الفيس بريسلي مثلما نتعرف على أجواء الفندق الذي يأوي البطل وصديقته، أغنية (قمر أزرق) لألفيس بريسلي، وأصدقاء أسرفوا في الشراب.