لطفية الدليمي
من هم المقامرون الفاوستيون في عصرنا ؟ إنهم – باختصار – كلّ من يقايضُ مستقبل الإنسانية بحاضرها في سياق مغامرة تقنية مجنونة ، أو هم من يغضُّ الطرف قاصداً متقصّداً عن المعضلات الوجودية الخطيرة التي تواجه البشرية، وبهذا الوصف يكون هؤلاء جميعاً كمن ( يبيع كلّه ببعضه ) كما تقول أمثولة في تراثنا الجميل .
ليست التقنية الجديدة ولاالتغيرات العنيفة المصاحبة لها قوة خارجة عن طوع البشر ، كلنا مسؤولون عن قيادة هذه الثورة التقنية عبر القرارات التي نتخذها يومياً باعتبارنا مواطنين ومستهلكين ومستثمرين ومطوّري تقنيات وصانعي سياسات ؛ لذا يتوجّبُ علينا أن نتفهّم طبيعة القدرة التي باتت بحوزتنا وأن ندرك أبعادها، وفي كلّ الأحوال، ولكي نحقق هذا الأمر ، يجب أن نطوّر رؤية شاملة ومُتشاركَة عالمياً بشأن الكيفية التي تؤثر بها التقنية في حيواتنا وفي كيفية تشكيل بيئاتنا الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والبشرية .
تمتلك الثورة الصناعية الرابعة القدرة على“ روْبتة robotize " الإنسانية وبالتالي حرماننا من قلوبنا وأرواحنا ؛ لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تدفع الإنسانية إلى مرتقيات جديدة من الوعي الجمعي والأخلاقي الذي يقودُ إلى حس مشترك بالمصير الإنساني العام .
يعتمد مستقبلنا على اتخاذ خيارات حكيمة بشأن التحدّيات المجتمعية المفصلية : الطاقة ، الصحة ، الغذاء ، الروبوتيات ، البيئة ، الفضاء ، الذكاء الاصطناعي ، وماسواها . هذه الخيارات تعتمد العلم بالضرورة ؛ غير أنّ القرارات الجوهرية لاينبغي أن يتخذها العلماء وحدهم دون سواهم لأنّ تلك القرارات تهمّنا جميعاً ويتوجّبُ في كلّ الأحوال أن تكون حصيلة ناتجة عن مناقشات جمعية شاملة واسعة النطاق ، وإلى أن يتحقّق هذا الأمر على أرض الواقع بفاعلية مؤثرة نحتاج جميعاً تطوير " شعور " جمعي تجاه الأفكار الأساسية في العلم فضلاً عن إمتلاك بصيرة مدرّبة تؤهّلنا لتقييم المخاطر والإحتمالات والمآزق وبكيفية تجعلنا محصّنين - بقدر مايمكن - من الوقوع في شرك الخبراء التقنيين ذوي الأجندات الخاصة أو الشعبويين الذين لايجيدون سوى تمجيد الشعارات الكبيرة الخاوية أو المنقادين الذيليين للسياسيين الفاسدين ، وكلّ من ينقادُ لمشيئة فاسد هو فاسدٌ بالضرورة .
تنشأ الموضوعات الأكثر تعقيداً في عالمنا المعاصر عندما يكون للبحث العلمي الذي ينهض به العلماء مترتّباتٌ تتجاوز نطاق المختبرات وتخلق تأثيراً ذا مفاعيل إجتماعية واقتصادية وأخلاقياتية تخصُّ كلّ المواطنين ولاتتعلق بفئة محدّدة منهم ، أو عندما تكشف تلك المترتّبات عن تهديد خطير لم ينل التحسّب المسبّق المناسب ، ولاينبغي للعلماء أن يكونوا غير مكترثين بثمار أفكارهم التي هي صنائعهم في نهاية الأمر ، ويتوجّبُ عليهم أن يحاولوا - مااستطاعوا لذلك سبيلاً - تعزيز الإستخدامات السلمية لصنائعهم ،وكذلك ينبغي أن يُبدوا مقاومة لاتستكين ، وبقدر مايستطيعون ، لكلّ التطبيقات المشبوهة أو التي تنطوي على نتائج تهدّد الحياة البشرية أو الكوكب الارضي ، وهم في سعيهم هذا ينبغي أن يسجّلوا تحذيرهم بشأن كلّ تطبيق علمي يحمل نُذُر التهديد للإنسانية وعلى نحو يجعل السياسيين يدركون تلك المخاطر بطريقة لالبس فيها كلّما كان هذا الأمرُ متاحاً .
كلنا نعرف أن السياسيين مقامرون فاوستيون بصيغة أو بأخرى : هم يفضّلون النتائج السريعة التي يجتنون منها مكسباً على الجهود طويلة الأجل التي تتطلّب تضحيات بالمواقف الآنية، وقد أبانت الجائحة الكورونية أنّ هذه البراغماتية السياسية القبيحة التي لو كنّا ارتضيناها من قبل على مضض فلن نرتضي الإبقاء عليها في قادمات الأيام .
ليس مقبولاً أن تكون حياتنا البشرية رهينة مقامرة فاوستية لسياسيين جشعين فاسدين أو علماء مغامرين نزقين .