TOP

جريدة المدى > عام > جامع النوري.. تصميم من وجهة نظر محلية

جامع النوري.. تصميم من وجهة نظر محلية

نشر في: 20 إبريل, 2021: 10:16 م

خالد مطلك

أثير جدل ليس بالقليل حول نتائج مسابقة إعادة بناء جامع النوري في مدينة الموصل، الذي أشرفت عليه منظمة (اليونسكو) المعنية بالتراث العالمي. هذا أمر جيد ومبشر، أن يهتم الناس، وخاصة أبناء المدينة، بالتراث المعماري والمساهمة في إبداء رأيهم، لأن الأمر يخصهم قبل سواهم.

فهم من يؤثر ويتأثر بالفضاء العام الذي سيترتب على أي مخطط جديد. وأبناء مدينة الموصل حريصون بشكل ملفت على هذا الموضوع، ولعل تنظيمهم زيارة البابا الأخيرة لمدينتهم كانت الحدث الأبرز في هذه الزيارة، فقد جمعوا بين رؤيتهم الأنيقة للحدث مع صورة الخراب الذي خلفه الإرهاب، وبعيداً عن هذا التنظيم الجميل والمُعبر، فان من يتابع الحملات التي يقوم بها شباب نينوى لتحسين شكل مدينتهم سيشعر بالفخر حتماً.

من هنا تكون الملاحظات والاعتراضات على التصميم الفائز، التي يبديها أهالي المدينة هي الأكثر أهمية في الأخذ بنظر الاعتبار.

لا أريد هنا الخوض في نقد التصميم الفائز، ولكن يكفي التلميح إلى طبيعة المواد المستخدمة فيه (الطابوق بدلاً عن الحجر الموصلي المعروف) وظهور أشجار النخيل في المشهد، لكي تدلنا على قصور كبير في فهم المدينة، لأن المصممين لم يتعرفوا بشكل وافٍ على أختلاف طبيعتها عن باقي مدن العراق، فقد التبس عندهم مفهوم الوطن الجغرافي، مع مفهوم جغرافيا العمارة، إذ أن الموصل عمرانياً، وبسبب ظروف تاريخية وسياسية، تنتمي الى فضاء يتجاوز حدود البلد السياسية نحو مجالات جديدة عابرة للخرائط الحالية، ولطالما كانت ترتبط بحلب وحمص السوريتين أو ترتبطان بها بهذا الخصوص. وعلى الرغم من أنها تشكل واحدة من الأسس الحضارية لبلاد ما بين النهرين، غير أن الكشوفات الاركيولوجية تؤكد تميزها لناحية المواد المستخدمة في صناعة تراثها، ولعل المعاول الإرهابية العنيفة التي أنهالت على الثور المجنح، تؤكد صلابة المادة الحجرية في الصمود بوجه الزمن، ومعروف لدينا ما تفرضه المادة على الخيال العمراني ومن ثم مجمل الحياة وطبيعتها.

وهذا الأمر، كان موضوع نقاشات مطولة أمتدت لفترة ليست بالقصيرة، تابعتها شخصياً مع فريق مكتب (Wmn atelier) الذي تديره معماريتان عراقيتان (نور مكية ومروة الدبوني) أثبتتا حضورهما في مدن تعد من مواطن العمارة الدولية (نيويورك وبرلين) وبالمساهمة مع مكتبين أميركيين هما (EJ workshop) و (Naomi Darling U.S) وباشراك مجموعة من المتخصصين بالحجر، وتعمير المباني التراثية، والتشجير، والنحت، من جنسيات إيطالية وإنكليزية وأميركية، لتقديم تصميم متكامل يلبي الحاجات الروحية والجمالية والنفعية للمكان، وبفهم حقيقي لشروط البيئة وثقافة المجتمع من بينهم (Vincent Marazita)

و(Darrell Petit) و(Peter Harrison) و (Ben Rosenberg) و(James Houck) و(Adam Blood).

فمنذ قرار المشاركة في المسابقة، عمل الفريق على تعريف هوية الموصل عبر سياحة تاريخية في عمقها الثقافي والسياسي والحضاري، لتقديم فضاء عام يتوجه نحو أهالي المدينة و يحمل في طياته رسالة جمالية ضمنية، بلمسة حديثة في تضاد مع صورة الهدم والخراب التي جرت على أرضها ولم تتعافَ منها بعد.

ثم تم العمل بترو لوضع “ باليتة” تمثل روح المدينة الحقيقية، هي عبارة عن مصفوفة (matrix) تضم مختلف المجالات والاختصاصات التي تحاكي السياق الحضري لمركز المدينة ومن ثم أطرافها، لتكون هذه “الباليتة” هي الأساس الذي تنطلق منه قرارات التصميم، الذي لم يتخل عن الاستجابة لشروط المدينة البيئة وعلاقتها بالمساحات الطبيعية، لذلك جاء المشروع المقدم يمثل واحة خضراء محاطة بحاجز من المباني الحديثة والتاريخية في نسيج عقلاني، تتخله الدروب الضيقة التي تحاكي “العوجات “ كما يسمي أهل الموصل دروبهم الضيقة.

أما ما يتعلق بالجامع فأن مشروع (Wmn atelier) التزم شروط المسابقة، التي تنص على إعادة التصميم طبقاً للشكل الذي كان عليه، وكما بناه نور الدين الزنكي عام ١١٧٢م (والتحويرات التي جرت بعد إعادة ترميمه في القرن الماضي) والمعروف بقبته المقصورة، التي تميزه عن قباب الجوامع المعروفة في باقي مدن العراق، لهذا وضعت ستراتيجية إنشائية لتقوية الهيكل المتبقي من خلال تشييد قبة ثانوية تمثل دعامة القبة الأولية، وتحاكي التصميم التاريخي الذي وضع في زمن (نور الدين الزنكي) لناحية الشكل تماماً، وهي قبة جديدة بالكامل وبمواد حديثة تعمل على إضفاء جمالية داخلية إضافية، وتصنع فضاء روحانياً ينتمي الى ذكرى تأسيس الجامع التاريخي، مع شيء من روح الحاضر تعكسه الخامات المستخدمة (نتذكر هنا طريقة بناء قبة كنيسة سانتا ماريا دل فيوري) في فلورنسا التي شيدها فيليبو برونليسكي باستخدام القبة المساعدة).

وراعى التصميم في تعامله مع المنطقة الغربية للمشروع، التي تتألف من المدرسة والجامعة والباحة متعددة الوظائف المشيدة من الحجر المحلي، نسيج المدينة القديمة عبر الإبقاء على طابع (العوجات) التي تخترق فناءات داخلية متنوعة من المشهدية الخضراء، لخلق تجربة فريدة لمستخدم المكان، تحكمه حجوم الأشجار والظلال التي توفرها.

في حين يأتي تصميم المباني بوحي من طابع البيت الموصلي التقليدي المحاط بالجدران السميكة (thick wall) والذي يوفر نوعاً من الاستدامة المعتمدة على مناخ هذه المنطقة.

من هنا يعتمد التصميم، بشكل رئيس خلق فضاءات لا تقوم على المباني الحجرية الجميلة لوحدها، بل على الجانب الروحي ذي البعد الديني لجلال المكان وجماله، ليوفر ذلك النوع من السكينة التي تعمقها حركة الأشجار، وخرير المياه، والضوء والظل، وروائح الزهور، واللون الأبيض وهو يشهد تدرجاته الطفيفة على مختلف أطوار النهار.

يتألف فضاء المركز من منطقتين: التاريخية التي يشخص فيها الجامع موضوع التصميم ومنارة الحدباء، وأمامها ذلك الصحن الواسع المحاط من الجانبين برواق حجري تخترقه فتحات جرت هندستها طبقاً للتراث الزخرفي لمباني المدينة التاريخية، تحيطه الفناءات الخضراء التي تعتمد الأشجار المحلية كشجرة الفستق المعروفة في المكان، وتلتئم حولها أشجار الزهور الموصلية التي يستخرج منها ماء الورد في حديقة الجامع.

بهذه العناصر وسواها، التي لم يتسع المجال لذكرها، كان يمكن أن يكون هذا المشروع هو الأكثر تعبيراً - بتقديري الشخصي - عن جوهر فكرة إعادة الإعمار، لكن اللجنة التي عينتها اليونسكو وجدت أمراً آخر، وعلى العموم، تبقى كل الجوائز التي تقررها لجان في العادة محل نقد واعتراض، وخاصة ونحن بشأن مسألة ذات صلة بثقافة مدينة وتاريخها وحاجة سكانها لاستدامة مرافقها بما ينسجم مع تطلعاتهم .

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مئوية نازك الملائكة

موسيقى الاحد: المتحف البريطاني

هوس ابتكار أجناس جديدة

الفائزة بالبوكر العالمية تروي رحلتها الأدبية إلى الفضاء!

حميد المختار: الطفيليات التي ظهرت في الفيس بوك في الرواية والشعر ظهرت أيضاً في مجال النقد

مقالات ذات صلة

حميد المختار: الطفيليات التي ظهرت في الفيس بوك في الرواية والشعر ظهرت أيضاً في مجال النقد
عام

حميد المختار: الطفيليات التي ظهرت في الفيس بوك في الرواية والشعر ظهرت أيضاً في مجال النقد

حاوره/ علاء المفرجيالقاص والروائي حميد المختار، ولد في بغداد، وحصل على بكالوريوس مكتبات ومعلومات من الجامعة المستنصرية ببغداد عام 1985.عمل في المسرح كاتبًا ومخرجًا وممثلًا. أعتقل بعد مشاركته في انتفاضة 1991، وحكم عليه بالسجن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram