لطفية الدليمي
بعد بضعة أشهر يكون الكيان الجغرافي العراقي قد أتمّ قرناً كاملاً على ولادته الرسمية في سنة 1921 ، كانت القابلة بريطانية ، وماذا يهمّ ؟ هل توجد دولة في العالم لم تنجبها قابلة؟ تشكيل الأمم صناعة لم ننجح فيها نحن - العراقيين - ؛ في حين نجح فيها غيرنا من العرب الأقربين والأبعدين . ربما لم ينجحوا ؛ لكني أراهم نجحوا بالمقاسات النسبية معنا ، إذا كان هؤلاء خسروا أشياء محدّدة ؛ فنحن خسرنا كل شيء بالمقارنة معهم .
تبدو حكومتنا في تيه من أمرها حتى لكأنّ مئوية الولادة العراقية لاتعنيها في شيء ، الحق أنّ أغلب العراقيين لاتعنيهم هذه الولادة ؛ بل حتى لكأنهم ينكرونها أصلاً . يتساءلون في سرّهم وعلانيتهم ( هذا إن إمتلكوا أصلاً دافعية التساؤل ) : مالي وهذه المولودة البريطانية التي حدّد معالمها المقصّ البريطاني الاستعماري أولاً وآخراً ؟
إنها حماقة كبرى أن لانتعلّم من تأريخنا . يحضرني في هذا المقام الجواهري الكبير إذ يقول :
ومن لم يتّعظ لغدٍ بأمسٍ وإن كان الذكي هو البليدُ
لننظر في حال الهند مثلاً ، ألم تكن درّة التاج البريطاني ؟ أليست كوكباً يعجّ بالتنوّعات السكانية واللغوية والدينية ؟ لماذا إذن صارت الهند مرشّحة لتبوِّئ مرتبة متقدّمة بين الاقتصادات العالمية والإمبراطوريات التقنية وهي التي لاتملك الثروات التي يملكها العراقيون ؟ وحال الهند ينطبق على حال الكثير من المستعمرات البريطانية السابقة التي حققت إنجازات كبرى في ميادين التعليم والصحة والريادة التقنية .
كان العراق الموروث من الحقبة العثمانية أرضاً خربة ، بدأ بناء المملكة العراقية من الصفر أو دون الصفر . لم يكن آنذاك نفط ملعون يخرّبُ النفوس والعقول ويُسيلُ لعاب الكائنات الطفيلية التي عرفت شفرة اللعبة اللاحقة : أمسك بكرسي الحكم فتمسك بمفتاح الثروة . صار العراق دولة بعلم وجيش وطني ومؤسسات في وقت لم تكن فيه الهند دولة بعد ! صارت الهند دولة مستقلة عن التاج البريطاني عام 1948 ، أي بعد أكثر من ربع قرن من تأسيس الدولة العراقية الحديثة ؛ فلماذا صارت الهند على الشاكلة التي نعرف في حين إنتهى العراق في قعر آسن لاقرارة له ؟ هذا سؤال بنيوي يجب على كلّ عراقي حقيقي أن يتفكّر فيه .
بدأ الحكم الملكي بإرساء نمطٍ معقول من الليبرالية المنضبطة والمتفاعلة مع الطبيعة العراقية المحافظة . لن يأخذنا الزهو والنشوة فنتصوّرُ أنّ الليبرالية العراقية كانت تماثلُ الليبرالية البريطانية ؛ لكنها كانت مقبولة في حدود زمانها ، والأهمّ من هذا أنها كانت قابلة للحياة والاستمرارية والتطوّر في كل الميادين. تجربة مجلس الإعمار – على سبيل المثال – كانت تجربة ناجحة على مستوى العالم ، وكان مقدّراً لها أن تحقق قفزات نوعية في الاقتصاد العراقي ، تجربة أخرى هي دار المعلمين العالية التي صمّمت لتكون بمستوى الجامعات البريطانية ، وقد خرّجت أعلاماً نابهين كثراً ، وكم أشعر بالخجل عندما يقالُ أنّ كلية التربية الحالية هي وريثة دار المعلمين العالية العظيمة . تجربة أخرى في هذا الميدان عندما صارت بغداد ورشة عمل في منتصف خمسينيات القرن الماضي بعد أن تمّ التعاقد مع أعظم معماريي العالم ليعملوا في بغداد : والتر غروبيوس ، ليه كوربوزيه ، ميس فان دير روه ، وآخرون ، وليس خافياً أنّ فرانك لويد رايت ( جنّي بغداد ) وضع تصميمات لدار أوبرا عراقية في جزيرة أم الخنازير .
لابد في هذه المئوية العراقية أن نستذكر حقائق كثيرة ، ومنها أنّ العراقيين كانوا ينامون ولم يكن ليخطر لهم في أسوأ كوابيسهم أنّ سيارة ستنفجر في الصباح ، أو أنّ جثثاً مجهولة سترمى على قارعة الطرقات ، أو أنّ المدافع ستعلن بدء حرب جديدة .