لبريطانيا تأثيرات فكرية كبيرة على العالم. وقد تكون الثورة الفرنسية، التي لا يحبها الانكليز، احدى نتائج تلك التأثيرات. لكن بريطانيا نفسها تبدو منيعة على التأثر بالأمواج الفكرية القادمة من الآخرين. ولعل ماركس، الذي قضى نصف عمره فيها، أفضل مثال على ذلك. فقد تسبب بأفعال ثورية خطيرة في أوروبا، جعلته طريد قياصرة وملوك، بينما استقبلته بريطانيا من دون أن تشعر به.
وفي وقت كان "شبح الشيوعية"جوالا صوالا في عواصم أوروبا، كان رأسها، ماركس نفسه، يقيم في لندن معزولا فقيرا معدما دون أي تأثير. ه. م. هيندمان مؤسس "الاتحاد الديمقراطي الاشتراكي" كان بين قلة نادرة من أصدقائه الانكليز. وكان شديد الاعجاب بماركس. لكنه في كتابه "انكلترا للجميع"، أحد افضل المؤلفات الانكليزية المبسطة عن الماركسية، أغفل، على غير عادة الناس في الغرب، الاعتراف بفضل ماركس، ولم يذكره بالاسم. وحاول الاعتذار منه بسبب أقبح من ذنب قائلا "ان الانكليز لا يحبون أن يعلمهم الأجانب. كما ان اسمك مكروه جدا هنا". فقطع ماركس علاقته به على الفور"ومعها آخر صلة له بالاشتراكية الانكليزية".
في ختام كتابه المعنون (كارل ماركس) يقول الفيلسوف البريطاني أشعيا برلين " ان ماركس بدأ عمله ليدحض القول بأن الأفكار تحكم سير التاريخ. بيد أن مدى تأثيره هو نفسه على شؤون البشر قدَّم مثلا مضادا لنظرته". الا في انكلترا. اذ تبدو هذه البلاد خلال حياة ماركس، كما هي اليوم، المثل على صحة فكرته التي تعيد حركة التاريخ الى الاقتصاد لا الى الأفكار.
وبين دول الغرب آنذاك كان ذلك ينطبق على بريطانيا وحدها. لكن اليوم أصبحت مقولة ماركس تنطبق على كل دول الغرب. وقد اشتهرت حملة بيل كلينتون الانتخابية بشعار "انه الاقتصاد يا غبي". ويبدو أن هذا المسار يرتبط بتحول في تاريخ الشعوب، ترجح فيه كفة الحياة على كفة الأفكار، عندما تعرف الرفاه. وماركس نفسه كان قد ألقى اللوم على الرخاء الذي بدد "الطاقة الثورية لدى العمال البريطانيين". قال"ان الرخاء الطويل في انكلترا أفسد معنويات العمال" وجعل تطلعاتهم برجوازية. البروليتاريا خانت البروليتاريا.
ان الرفاه لا يأتي وحده. فهو نتاج سلسة تطورية في شتى الميادين، خاصة الاقتصاد والمعرفة، تجعل من الحياة حقيقة مقدمة على كل شيء. الحياة المتعينة في المسكن والعمل والصحة والتعليم والتسلية والترفيه ومختلف أنواع الأشياء والخدمات التي تجعل العيش أيسر. وبالتالي فان العمل على تحسين هذه الأشياء، أو تحسين الحياة بالجملة، هو موضوع "الشعوب الحية".
لكن عندما تكون الحياة بائسة فان كفة الأفكار ترجح. وبهذا البؤس نفسه يمكن تفسير تحول ماركس نفسه الى أهم قوة فكرية في معظم أنحاء العالم على مدى قرن. والى البؤس السائد في ثلاثة أرباع المعمورة اليوم يمكن أن نعيد أيضا أسباب أرجحية الأفكار على الاقتصاد، والوهم على الحقيقة، والخرافة على العلم. في مثل هذه المرحلة من تاريخ الشعوب فإن أشنع الأفكار يمكن أن تحرك الجمهور، من "فوضوية" باكونين القائلة بأن "التدمير نوع من الخلق"، مرورا بنظرية نشر الفساد للتعجيل بظهور المهدي المنتظر، وصولا الى "القاعدة".
قد لا يوجد شاهد محيط بقوة تأثير الأفكار مثل أشعيا برلين. وعندما يتخذ من "كارل ماركس" مثلا عليها، ويكون هو المؤلف، تتجسد ملحمة مذهلة لإحدى أهم موجات الفكر في تاريخ البشرية.
جميع التعليقات 1
جمعة جهاد سيف
لو لم تكن للاكليز مناعة ضد الافكار الوافدةوكذلك لايحبوا ان يعلمهم الاخرين لابعدوا (ابو قتادة)فورا من مملكتهم