 د. أحمد الزبيدي

حين تشرفتُ بزيارة الروائي الدكتور لؤي حمزة عباس، ذهبنا لزيارة ضريح المتنبي في النعمانية ، وحين نشر في صفحته الشخصية صورة تجسد الزيارة علّق أحد أصدقائه: هل يوجد بالفعل ضريح للمتنبي؟ أين؟ فرد عليه الدكتور لؤي: العراق، محافظة واسط، النعمانية ..

أقول: لا غرابة في عدم معرفة البعض لمكان ضريح المتنبي؛ فالقريبون من الضريح يسمون مالئ الدنيا وشاغل الناس بـ (أبو سُورَة !) وللكُنْية الشعبية حكاية؛ فقد شهد الناس حينها كراماته المشخّصة في الطبيعة، حيث فيضانات نهر دجلة في النصف الأول من القرن الماضي حتى ساور الماء حول قبره المرتفع، فبرهن سكان القرى على كرامة صاحب القبر، وصار مزاراً وملاذاً تُشَدّ له النذور .. وجاءت وزارة الشاعر شفيق الكمالي، الذي رمّم القبر وبناه بقُبّة من طراز عباسي، شاهقة عالية ترغم القادم على النظر بعلو هامة صاحبها؛ فأصبح اسم المتنبي بعد ترميم قبره وتوثيقه مُهيمناً على الكنية الشعبية؛ بل كادت أن تغيب، لولا ذكريات الشاهدين على الفيضانات وقسوة الطبيعة؛ ولكن من هذا الذي امتدت قبة قبره حتى تجاوزت هامات النخيل المحيطة بالضريح

وبحسب الطقوس الشعبية فإن لكل ضريح مقدس يوماً مخصصاً لزيارته: حقيقة كان أم متخيلًا فالمهم أنه لابد من يوم خاص لصاحب المقام. والمفارقة العجيبة أن يوم زيارة ( أبو سورة ) هو يوم الحادي والعشرين من شهر آذار، وهو يوم ( الشعر العالمي !) اليوم الذي يتعادل فيه الليل والنهار وتفزع الصبية إلى الأماكن الجميلة لتلوذ بشمس آذار وضوع عطور الزهور و(الدخول).

ولا أظن أحداً من المحتفلين يدرك أنه يوم الشعر أيضًا ويوم المتنبي خاصة .. عجيبة هي المفارقات المحيطة بالمتنبي فقد منحته رأفة الماء الهائج قدسية شعبية ومنحه الزمن احتفالاً بيوم اعتاد عليه المتنبي ومات لأجله أو بسببه.

وكم يزخر العراق بأضرحة لكبار الشعر والمعرفة والثقافة؟ وكم لها نصيب من شدّ الرحال واستحضار قيمها الرمزية والثقافية؟ فالحلاج المصلوب على ضفاف دجلة قد تتذكره فضائية ما حين تقدم تقريراً عنه، والسياب المدفون في مقبرة الحسن البصري جوار رابعة العدوية قد يتبرع شاعر بالتقاط صورة عند قبره المرمم حديثًاً ..

أقول وأتحسر حين تزور القاهرة ويقترح عليك ( سائق التكسي! ) أن يأخذك إلى متحف نجيب محفوظ أو متحف أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ أو أحمد شوقي وربما يبقى من الوقت ما يكفي لاصطحابك إلى قبورهم ! ..

ترى لو طلبت من سائق تكسي عراقي أن يأخذني إلى قبر الرصافي هل سيعرف مكانه؟ ولو استنجد بالجي بي أس أيدلّه عليه؟ وهذا الكلام ليس قدحاً بالسائقين الهارعين ليل نهار لسد رمق عيالهم ولكنه تذكرة للقائدين والقائمين على رأس الثقافة العراقية والحكومة أن يهتموا برمزية هذه المقامات الخالدة ويعرّفوا العامة بأهميتها وقدسيتها الثقافية وما تكتنزه من رمزية عالية تنتمي لهوية وطنية وتاريخية تعد جزءاً من رمزية العراق ومكانته الرفيعة على مد بصر الذاكرة والتأريخ والزمن والكتابة ..

ولعل بعض الرموز اكتسبت قدسية هائلة لدوافع إيديولوجية واجتماعية ودينية، وقليلاً ما اكسبت الرموز المعرفية اهتماماً عراقياً. ولا غرابة؛ فثقافتنا مازالت تحركها الدوافع الإيديولوجية أكثر من الدوافع المعرفية بل حتى إن كان فيها رمز معرفي رفيع مازال على قيد الحياة فإن الآخر الإيديولوجي المتصادم معه يحطّ من قدره ببُغض وكره وإساءة تكفي لاستقصائه ومحوه من اللحظة الحاضرة .. ويا للأسف فقد أكلت ( العقائد ) الكثير من (المعرفة).

ويا لحسن حظ المتنبي الذي أنقذه (قدر الطبيعة) وما أشبهه بقدر أسيس بطل إبراهيم الكوني في رواية ناقة الله حين قال: (نحن لا نمدح القدر إلّا حين ينصفنا) !