لطفية الدليمي
سأعرّفكم في هذه المقالة برجلٍ يدعى (مارفن مِنسكي Marvin Minsky ) .
يدخل رجل تسعينيٌّ أحد صفوف الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس التقني الأميركي الأشهر على مستوى العالم ، والذي لطالما وُصِف بأنه المختبر الذي تطبخ فيه التقنيات الحديثة . يدخل الرجل الرشيق وهو يلبس قميصاً زهرياً شبابياً يبوح بانطلاقة الحياة وزهوها ، ويخاطب طلبة الماجستير قائلاً : " أهلاً أعزائي . ربما ترونني نشيطاً منطلقاً كشاب عشريني . الفضل ليس لي ؛ بل لزوجتي التي أعدّت لي طبق بيض رائعاً بينما أعددتُ أنا الشاي والخبز المحمّص . لاتنسوا أن تعدّوا فطوراً رائعاً لكم ولحبيباتكم كل صباح ، هذه هي وصفتي لكي تنجزوا إنجازاً أكاديمياً رائعاً طيلة حياتكم ...." ، ثمّ يمضي الرجل في محاضرته عن موضوعات خاصة بالذكاء الاصطناعي والروبوتات .
من هو مارفن منسكي الذي رويتُ لكم مشهداً من أحد فصوله الدراسية التي إعتاد معهد MIT نشرها على منصّته المجانية الرائعة المسمّاة MITOpenCourse ؟ إنه أحد الآباء المؤسسين لعصر الذكاء الإصطناعي والروبوتات ، توفّي الرجل 2016 وهو في نحو التسعين من عمره، وظلّ حتى أواخر أيامه يأتي سيراً على قدميه لكي يلقي محاضراته في معهد MIT والتي كانت تشهد إقبالاً من طلبة أقسام أكاديمية مختلفة ؛ إذ أنّ الحضور متاحٌ لكلّ من يرغب وليس وقفاً على أشخاص بعينهم مثلما يحصل في جامعاتنا ذات التعاليم الخانقة.
لايمكنُ للمرء إلا أن يتابع محاضرات منسكي وهو مأخوذٌ بتلك الإشراقة التي تكاد تنطق في عينيه . لسنا هنا إزاء أستاذ جامعي جاء يلقي عن كاهله عبء محاضرة جامعية يتقاضى عليها أجراً. الحاضرون من جانبهم لايقلّون عن منسكي رغبة وتوهجاً عقلياً في معرفة الخفايا المعرفية التي يكتنزها الذكاء الإصطناعي بكلّ تفريعاته المعقدة ، لم يأتوا لكي ينالوا شهادة تساهم في إضافة آلاف الدنانير على مرتباتهم . ثمة حبّ لما يفعله الجميع ، وتكاد ترى آثار هذا الحبّ ناطقةً في القلوب والعيون والعقول والأرواح ، هناك تبسّطٌ وشعورٌ بجوع ممضّ للإستزادة من المعرفة وطرق أبواب جديدة فيها ، ولاتكاد تلحظ إختلافاً في طبيعة هذا الشعور بين منسكي التسعيني وطلبته الذين يتوزّعون بين فئات عمرية متباينة.
ماالذي أريد الإشارة إليه في هذا المشهد السائد في مؤسسة أكاديمية تحتل مقعداً في الجبهات المتقدّمة الصانعة للعلم والتقنيات الريادية في العالم ؟ إنه التواضع الذي يمثل السمة المميزة لكلّ روح بحثية متطلّعة .
نتحدّثُ كثيراً عن التواضع ، وتزخر مروياتنا التراثية بحكايات عن التواضع ومزاياه المحببة ؛ لكنها في العادة لاتخرجُ عن فضاء الفلكور الشعبي وأروقته التي تخاطبُ العقول المثقلة بالعصبيةالموروثة ، والتي ماتحوّلت يوماً لتكون مدوّنات سياقية في الأخلاقيات المهنية والأكاديمية الا فيما ندر.
تقرأ أحياناً منشوراً فيسبوكياً يريد صاحبه أن يكون منصّة ترويجية له ، وهذا عمل يمتلك كلّ المشروعية الأخلاقية والإجرائية، ومن أجله صارت المنصّات الألكترونية المجانية وسائل تُرفَعُ لها ألف قبّعة وقبّعة . لكن كيف يمهّدُ صاحب المنشور لمنشوره ؟ ينسّبُ كلّ شيء إلى الضمير ( نا) : مقالُ (نا) ، دراستُ (نا) ، مساهمتُ ( نا ) ،،،، إلخ .
أقول في مثل هذه المواقف : تمهّل عزيزي أو تمهلي عزيزتي . قد نلتمسُ لكما العذر في عصر ماقبل الشبكة العالمية ؛ لكن كيف تقبلان أن تتلبّسكما هذه الأنوية المفخّمة التي تذكّرُنا ببعض بقايا زمن ( العصملّي) الرثّة في عصر تتاح فيه المعلومات وتتيسر مصادر المعرفة الهائلة لجميع البشر؟
لكلّ هؤلاء المسكونين بلعنة ( نا) المفخّمة أقول : فلنجرب أن نتعلم من مثال منسكي وأريحيته المشرقة ؛ فربّما حينها ندرك معنى التواضع في عصر كشفت فيه التقنيات الفائقة والتدفق المعرفي حجم أوهامنا.