لطيف القصابلم يعد سائغا في عالم اليوم طرح موضوع المفاضلة بين الإعلام الأحادي والمتعدد على طاولة النقاش، فقد انتهى الأمر منذ أمد بعيد إلى تقرير حقيقة ان تعددية الإعلام هي الأفضل لرقي الشعوب والمجتمعات الإنسانية، وذلك على خلفية الخدمات الجليلة التي تقدمها التعددية الإعلامية للرأي العام بالمقارنة مع الإعلام الأحادي الذي يحاول قسر الجماهير عادة على النظر الى القضايا والأحداث عبر زاوية نظر منتقاة سياسياً.
ولكن هل مسألة تعدد وسائل الإعلام حققت مستويات وعي (سياسي) متقدمة بالنسبة للبلدان التي اعتمدت هذا الأسلوب ام ان ارتفاع الوعي السياسي ليس مرهونا بتحقيق شرط وجود بيئة تمنح المتلقي أكثر من زاوية نظر واحدة؟للجواب على هذا التساؤل لابد من دراسة نموذج حي لبلد استبدل أحادية الإعلام الصارمة بأخرى متعددة، وقياس معدل الارتفاع او الانخفاض في مستوى الوعي السياسي العام، ولن يكون نموذجا اكثر يسراً من الحالة العراقية يمكن الاستفادة منها في هذا الصدد. فقد عاش العراقيون طوال عقود كاملة تحت نير حكم مستبد، وكان من جملة ما اعتمده هذا النظام في السيطرة على حركة المجتمع هي وسائل الأعلام الرسمية التي مثلت بمجموعها ذراعا قويا استفاد منه النظام في تخدير الشعب وتنويمه تارة وتعبئته وتثويره تارة أخرى. غير ان ذلك لم يكن ليعني ان الغالبية العظمى من العراقيين كانوا من البلاهة بحيث تنطلي عليهم حيل والأعيب النظام السابق، ولم يعدم جل العراقيين الوصول الى وسائل إعلام محظورة تعينهم على المقارنة العقلية بين الحقائق والأوهام، والتفلت من اسر الصندوق الذي كان يحاول الإطباق على عقولهم بشكل متواصل. صحيح ان الحياة السياسية العلنية المعارضة للسلطات الحاكمة آنذاك لم يكن مقدرا لها ان تصمد أمام أجهزة القمع ولا حتى دقيقة واحدة، بيد ان الوعي السياسي الشعبي لم يكن في وقت من الأوقات وعيا معلبا جاهزا بدليل ان الغالبية العظمى من الشعب العراقي كشفت ظهر النظام عاريا امام القوات الأمريكية في فترة سقوطه المهين يحدوها الى ذلك الصنيع مقاربة منطقية تفيد بأنه لا يمكن ان يتعرض الشعب العراقي الى ما هو اسوأ مما كان عليه بالفعل، وذهبت إدراج الرياح كل جهود أجهزة الإعلام التي كانت تحاول مستميتة استدرار عطف الجماهير وحشد قواها خلف (قيادتها الحكيمة). ومنذ ذلك التاريخ عاش العراقيون حقبة مختلفة كان طابعها الرئيسي الانفتاح الواسع لفضاءات الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي على الفرد العراقي، فقد أصبح ديدن كل حزب او تجمع سياسي ان يوجد له مكانا في عالم الإعلام الرحب هذا. غير ان اللافت للأمر ان التعددية الإعلامية لم توسع آفاق الوعي السياسي مثلما كان المرجو منها بل تحولت كثير من أجهزة الاعلام الوليدة الى مؤسسات تستهدف التشهير بالحقيقة لا الاشهار بها والى مقاه للثرثرة وبث المغالطات اكثر منها وسائل للإعلام ترمي إلى نقل الوقائع مثلما هي على ارض الواقع، وبالتالي فإن هذه الوسائل الإعلامية متباينة الأهواء والرؤى لم تسهم الا في التشويش على الوعي العام ما عدا اقل القليل منها. قد يكون من المعقول تصور ان الهدف الذي تنشد تحقيقه بعض الأجهزة الإعلامية المرتبطة بالنظام السابق يكمن في هذا التشويش المتعمد نفسه من اجل حمل قطاعات من الجماهير على التفكير بفرضية ان الوضع الحالي هو أسوأ مما كانوا عليه في عهد النظام السابق وانه ليس بالإمكان أفضل مما كان وبالتالي ليس بالإمكان الا العودة إلى ما كان..، ولكن هل يصح تعميم هذا الهدف البائس على جميع أجهزة الإعلام؟ من المفروض ان يكون عدد غير قليل من المؤسسات الصحفية المتواجدة حاليا في المشهد الإعلامي الراهن مالكة لطريقة تفكير مغايرة لسائر أجهزة الإعلام العراقية المحلية والخارجية المتعاطفة مع النظام الشمولي السابق، وبالتالي فإن عليها تقع مسؤولية التنوير في مقابل التشويش لا الانجراف في موجة التشويش المغرضة. ان الاختلاف على المناصب السياسية بين القوى السياسية في الفترة الحالية على سبيل المثال لا يمكن ان يكون مسوغا مقبولا يبرر ما تقوم بفعله بعض أجهزة الإعلام المرتبطة بأحزاب سياسية معروفة من محاولات إقناع للعراقيين بجدوى تدويل قضاياهم المحلية او تصوير بعض سكان البلاد على أنهم ليسوا من أهلها. اذا لم يكن من المناسب او الواقعي مطالبة المؤسسات الإعلامية العراقية بتوخي مبدأ الحياد الكامل في تغطياتها الأخبار والأحداث لكونها تستند الى مرجعيات فكرية مختلفة، فانه لا اقل من مطالبتها بانتهاج المهنية الإعلامية التي تحرم جعل الخبر الواحد أخبارا متعددة المعاني والدلالات، وان تقر بحقيقة الاختلاف السياسي بين العراقيين وان تحترم هذا الاختلاف وتسعى لبقائه في حدود التعايش السلمي بدلا من محاولات إلغائه الفاشلة. واذا لم يكن بد من بيان الاختلاف سياسيا كان او اجتماعيا او نحو ذلك فليكن هذا البيان بشكل متحضر ينأى بالرسالة الإعلامية وحاملها من مغبة الوقوع فريسة لسوء التفكير والتعبير وبالتالي انعكاس هذا الامر على نسبة كبيرة من المتلقين ترديا في مستويات الإدراك والسلوك.
وسائل الإعلام بين التنوير والتشويش
نشر في: 23 مايو, 2010: 04:43 م