لطفية الدليمي
يعمد الكاتب في أحيان كثيرة إلى اختراع أمكنة بأسماء متخيلة وغير مسبوقة ، يمنحها أوصافاً ومديات لاتنطبق على الواقع إلا في إلماحات نادرة ؛ ولكي يبتكر الروائي والقاص بيئات جديدة لعمله ، يضع تصورات جغرافية وجيولوجية معينة لتدور ضمنها وقائع روايته أوقصته ،
وقد يمنح المكان المتخيل سماتٍ تاريخية مفترضة ليضفي عليه بعض الرسوخ الزمني وليمتلك قوة الإقناع ويغدو ملائماً لاحتضان مشروعه الفكري والإبداعي المتخيل ، فيمنحه فضاء المكان المبتكر آفاقاً لامحدودة وحرية حركة لشخصياته القصصية والروائية المبتكرة ، فلا يخضع لاشتراطات إجرائية وقانونية معينة تتطلبها الوقائع الحاصلة في الفضاءات الحقيقية .
ألهم ماركيز كثيراً من كتّاب عالمنا باختراعه قرية ( ماكوندو) في روايته ( مائة عام من العزلة ) وماكان الوحيد في هذا ،فقد سبقه كثير من المبدعين والمفكرين والفلاسفة إلى اختراع عوالم وأمكنة متخيلة تصاغ وتتشكل بين مدياتها وقائع كتبهم وتتجسد فيها رؤاهم الفكرية والفلسفية بقوالب روائية ممتعة.
قد يعمد الكاتب والكاتبة إلى اختراع الأمكنة عندما يخطط لمنح نصه أبعاداً فانتازية أو أسطورية تتناغم مع وقائع النص ، وفي ظروف معينة يعمد إلى اختراع أمكنة لاعلاقة لها بواقع بلاده ، نأياً بنفسه عن تأويل المتربصين وأعين الرقباء ، بخاصة في بلدان تتسيد فيها سلطة بوليسية تستخدم كل وسائل القمع لتحمي وجودها، فتصادر حرية الكتّاب وتحول بينهم وبين تأشير الخلل وتسمية الأشياء بأسمائها.
لطالما لجأتُ في بعض قصصي الطويلة ورواياتي المكتوبة في العقود الماضيات إلى اختراع أمكنة بأسماء لاتمت بأية صلة للمكان الواقعي لسببين ، الأول : لمنح القصة أوالرواية لمسة فنتازية وجواً أسطورياً يناغي الخيال ويبتعد عن المحاكاة المملة للواقع المعاش ، والثاني : للنأي بالنفس عن مزالق التأويل والتفسير التعسفي للواقعة.
سبق لي أن ابتكرت أمكنة بأسماء غريبة في قصتين طويلتين لي نشرتا بهذين العنوانين ( أخوات الشمس ) و( أخوات القمر ) ،ظهرت الأولى في أواسط الثمانينيات في مجلة ( الأقلام ) وتروي محاولة لتطبيق فكرة علمية في علاج القنوط والاكتئاب والانهيارات النفسية والفقدانات وانمساخ القيم الإنسانية بارتياد غرفة شمسية دوارة ، لاقتناص روح الشمس وبعض أشعتها العلاجية لشفاء أخوات الشمس وانتشالهن من واقعهن المأساوي ، بينما ظهرت ( أخوات القمر) بعدها ببضع سنوات فشكلتا معاً متوالية قصصية ممتدة بالشخصيات والأمكنة المتخيلة ذاتها، إذ واصلت في ( أخوات القمر) ملاحقة مصائرالشخصيات المحكومة بالواقع العراقي المموّه بين حربين دمويتين ، مثلما تابعت انعكاسات الوقائع الصادمة ومفاعيلها التراجيدية على الرجال والنساء ومجمل مظاهر الحياة في ذلك المكان المخترع .
سبق لي اختراع أمكنة متخيلة في عملي الروائي الأول ( من يرث الفردوس) ، غير أن الواقعة الاجتماعية والمعضلات الوجودية التي تجابهها الشخصيات وتكافح لإيجاد حلول ممكنة لها ، تتماثل - إلى حد ما - مع واقع الإنسان في بلادنا وعصرنا، وقد أردت لروايتي ( من يرث الفردوس ) المكتوبة منتصف الثمانينيات أن تكون تمثيلاً لنبوءة انهيار النظم الشمولية ( اليوتوبيات الأيديولوجية ) وفشلها المحتم في قابل الأيام .
يتيح المكان المبتكر للشخصيات الروائية المتخيلة أن تندغم فيه وتتماهى معه لتغدو جزءاً أصيلاً وكياناً حيوياً فاعلاً فيه، فلا تبدو طارئة عليه أو متنافرة مع طبيعته ، مما يحقق بالتالي تناغماً فنياً ومنطقياً مع الفكرة الأساسية المتخيلة التي تقوم عليها الرواية ، سواء كانت تصويراً لحياة إنسانية بمواصفات معتادة ، أو كانت مشروعاً مخلّقاً يتشكل في سياق مستقبلي قائم على مخطط فكري وفلسفي واقتصادي غير مسبوق .